طوَّر الباحثون عالِماً فيزيائياً رقمياً يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي

4 دقائق
مصدر الصورة: سيلفار/ فليكر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من الحوادث الشهيرة التي تحكى عن جاليليو أنه رأى مصباحاً يتأرجح في كاتدرائية بيسا عندما كان طالباً، وقام بتوقيت حركته بمقارنته مع نبضات قلبه، واستنتج أن دور الحركة (الزمن المطلوب لاستكمال الحركة المتكررة قبل تكرارها من جديد) ثابت ومستقل عن سعتها.

بعد ذلك، اقترح جاليليو استخدام النواس للتحكم بالساعة، وصمم لاحقاً آلة على نفس المبدأ، على الرغم من أن أول ساعة من هذا النمط بُنيت بعد 15 سنة من وفاة جاليليو على يد هيوجينز.

وتجلت عبقرية جاليليو في هذا الاكتشاف بتجاهل جميع التفاصيل الدقيقة والعشوائية الأخرى التي كانت موجودة في الكاتدرائية، مثل مقاومة الهواء ودرجة الحرارة والضوء المرتعش والضجيج ووجود أشخاص آخرين. لقد اكتفى بالتفكير في نموذج بسيط لمصباح متأرجح معتمداً على دور حركته، ومركزاً على هذا التفصيل الهام فقط.

ويعتبر الكثير من المؤرخين أن أسلوب جاليليو يمثل المراحل الأولى من تطور المنهج العلمي، الذي أدى لاحقاً إلى ظهور الطيران، ونظرية الكم، والحوسبة الإلكترونية، والنسبية العامة، وحتى الذكاء الاصطناعي.

وفي السنوات الأخيرة، بدأت أنظمة الذكاء الاصطناعي باكتشاف أنماط مثيرة للاهتمام في البيانات نفسها، بل قامت أيضاً باشتقاق بعض القوانين الفيزيائية منها. ولكن في هذه الحالات، كان الذكاء الاصطناعي يدرس مجموعة محددة من البيانات المعزولة عن تشويش العالم الحقيقي؛ أي أن قدرة هذه الأنظمة ما زالت بعيدة للغاية عن مستوى البشر مثل جاليليو.

وهو ما يثير سؤالاً هاماً: هل من الممكن تصميم نظام ذكاء اصطناعي قادر على تطوير النظريات بطريقة جاليليو، وذلك بالتركيز على المعلومات التي يحتاجها لتفسير بعض الظواهر ضمن العالم الذي يراقبه؟

يبدو أننا حصلنا على إجابة عن هذا السؤال، وذلك بفضل عمل تايلين وو وماكس تيجمارك في إم آي تي في كامبريدج، ماساتشوستس. فقد قام الباحثان بتطوير نظام ذكاء اصطناعي قادر على محاكاة طريقة جاليليو وبعض الحيل الأخرى التي تعلمها الفيزيائيون على مدى عدة قرون. ويستطيع هذا النظام -الذي أطلق عليه اسم: الفيزيائي الرقمي- أن يستخلص عدة قوانين فيزيائية من عوالم غامضة بُنيت عمداً لمحاكاة تعقيد كوننا الذي نعيش فيه.

وبدأ كل من وو وتيجمارك بتحديد نقطة ضعف هامة في أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة. فعند العمل على مجموعة كبيرة من البيانات، تبحث هذه الأنظمة عادة عن نظرية واحدة تحكم المجموعة بأكملها. ولكن هذه الطريقة تصبح أكثر صعوبة مع ازدياد ضخامة وعشوائية مجموعة البيانات. وبالفعل، فإن استخلاص أية قوانين فيزيائية من بيئة معقدة مثل الكاتدرائية سيكون مهمة مستحيلة عملياً بالنسبة لأي من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية.

وللتعامل مع هذه المشكلة، يعتمد الفيزيائيون على عدد من العمليات الذهنية الهادفة إلى تبسيطها. ومن أولى هذه العمليات تطوير نظريات تصف فقط جزءاً صغيراً من مجموعة البيانات، وهو ما يؤدي إلى ظهور نظريات متعددة تصف بمجموعها نواحي مختلفة من البيانات، مثل الميكانيك الكمومي والنسبية.

كما قام وو وتيجمارك بتطوير الفيزيائي الرقمي للتعامل مع مجموعات البيانات الكبيرة بنفس الأسلوب.

ومن القواعد العامة الأخرى التي يعتمد عليها الفيزيائيون القاعدة المسماة “موس أوكام”، وهي التي تقول بأن التفسيرات البسيطة هي الأفضل. ولهذا يميل الفيزيائيون غالباً إلى استبعاد النظريات التي تتضمن وجود قوة أولية لخلق الكون أو الأرض أو الحياة نفسها. حيث إن افتراض وجودها يثير مجموعة إضافية من التساؤلات حول طبيعتها وأصلها.

وتشتهر أنظمة الذكاء الاصطناعي أيضاً ببناء نماذج شديدة التعقيد لتوصيف البيانات التي تدربت عليها. ولهذا قام وو وتيجمارك أيضاً بتعليم هذا النظام تفضيل النظريات البسيطة على المعقدة، وذلك باستخدام قياس مباشر للتعقيد بناء على مقدار المعلومات التي تشملها النظرية.

ومن الحيل المعروفة أيضاً لدى الفيزيائيين هي البحث عن وسائل لتوحيد النظريات، فإذا كانت نظرية واحدة قادرة على أن تحل محل نظريتين، فهذا على الأرجح أفضل. وبسبب هذا التوجه، يسعى الفيزيائيون إلى تحقيق هدف كبير باكتشاف قانون واحد يحكم جميع القوانين، على الرغم من عدم اكتشاف دليل ملموس على وجود نظرية كهذه حتى الآن.

أما المبدأ الأخير الذي ساعد الفيزيائيين على أداء عملهم بشكل جيد فهو التعلم الطويل، أي أنه إذا نجحت طريقة ما في الماضي، فقد تنجح في حل المشاكل المستقبلية أيضاً. ولهذا يتذكر الفيزيائي الرقمي الذي صممه وو وتيجمارك الحلول التي تعلمها، ويحاول تطبيقها على المشاكل اللاحقة.

وبعد تزويد الفيزيائي الرقمي بهذه التقنيات، قرر وو وتيجمارك اختباره بشكل عملي، وذلك عن طريق تصميم 40 عالماً غامضاً تحكمها قوانين فيزيائية تختلف من مكان إلى آخر، وعلى سبيل المثال فإن رمي كرة في إحدى هذه العوالم قد يؤدي إلى وقوعها تحت تأثير الجاذبية ضمن منطقة يحكمها الكمون الكهرطيسي، ومن ثم في منطقة أخرى يحكمها الكمون التوافقي، وهكذا دواليك.

أما السؤال الذي طرحه وو وتيجمارك هو ما إذا كان الفيزيائي الرقمي قادراً على استخلاص القوانين الفيزيائية المناسبة عن طريق دراسة حركة الكرة مع الزمن فقط. وقد قارنوا سلوك هذا النظام مع سلوك “فيزيائي حديث الولادة” يستخدم نفس الطرائق ولكنه لا يتمتع بميزة التعلم الطويل، إضافة إلى مقارنة أخرى مع سلوك شبكة عصبونية عادية.

وتبين بالمقارنة أن كلا الطرفين (أي الفيزيائي الرقمي والفيزيائي الوليد) قادر على استخلاص القوانين المناسبة، حيث يقول الباحثان: “تمكن كلا الطرفين من حل ما يزيد عن 90% من ألغاز جميع هذه العوالم الغامضة”. أما الأفضلية الأساسية للفيزيائي الرقمي مقارنة بالفيزيائي الوليد هي أنه يتعلم بسرعة أكبر باستخدام مقادير أقل من البيانات، كما يقول الباحثان: “هذا أشبه بكون العالم الخبير قادراً على حل المعضلات الجديدة بشكل أسرع من العالم المبتدئ، وذلك بالاعتماد على المعرفة السابقة بمعضلات مشابهة”.

وتبين أيضاً أن النظام الجديد أفضل بكثير من الشبكة العصبونية العادية، يقول الباحثان: “بشكل عام، يتمتع الفيزيائي الرقمي بسرعة أكبر في التعلم، كما أن متوسط مربعات الأخطاء في توقعاته أصغر بحوالي مليار مرة مما تقدمه شبكة عصبونية نموذجية أمامية التغذية بنفس المستوى من التعقيد”.

إنه عمل هام، ويشير إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تكون كبيرة التأثير على التقدم العلمي. وبالطبع فإن الاختبار الحقيقي هو إطلاق عنان الفيزيائي الرقمي ضمن بيئة حقيقية، مثل كاتدرائية بيسا، ورؤية ما إذا كان قادراً على استنتاج المبدأ الذي تقوم عليه الساعات الميكانيكية. أو قد يكون من الأفضل جعله يعمل على مجموعات أخرى من البيانات المعقدة، مثل تلك البيانات التي تتسبب في حيرة دائمة لعلماء الاقتصاد والبيولوجيا والمناخ، فمن المؤكد أن هناك ثمرة علمية ناضجة في مكان ما ضمن هذه البيانات يمكن لهذا النظام أن يقطفها.

وإذا نجح الفيزيائي الرقمي، فقد ينظر إليه مؤرخو العلم يوماً ما على أنه يمثل إحدى أولى الخطوات نحو حقبة جديدة من تطور المنهج العلمي بشكل يتجاوز جاليليو وأقرانه من البشر. ولا يمكن أن نتوقع نتائج هذا التطور.

مرجع: arxiv.org/abs/1810.10525: تصميم الفيزيائي الرقمي الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي ويتعلم بدون إشراف.