كيف يمكن لرأس المال الجريء أن يتجنب الأخطاء السابقة في الطفرة الجديدة للتكنولوجيا النظيفة؟

7 دقائق
الاستثمار في الطاقة النظيفة
مصدر الصورة: فيستا وي/ أنسبلاش.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

انتهت الاندفاعة المحمومة للاستثمار في التكنولوجيا النظيفة خلال العقد الماضي بكارثة، وأسفرت عن مسح المليارات من أموال الاستثمارات وإثارة الخوف لدى أصحاب رأس المال المغامر لسنوات لاحقة.

لكن اليوم، هناك طفرة استثمارية جديدة تلوح في الأفق، وتتركز هذه المرة حول مجموعة أوسع من التقنيات ذات الصلة بالمناخ. ووفقاً لتقرير صادر عن بي دبليو سي (PwC) هذا الخريف، ارتفع التمويل بأكثر من 3,750% منذ عام 2013. وشهدنا نشوء العديد من شركات رأس المال الجريء التي تركز على المناخ وعودة اللاعبين الراسخين إلى الميدان (بما في ذلك بعض الشركات التي تعرضت للدمار في المرة السابقة). ومن المتوقع أن ترتفع الاستثمارات بشكل أكبر مع تضافر عوامل السوق والسياسات والقوى التكنولوجية لتمنح أصحاب رأس المال الجريء ورواد الأعمال ثقة أكبر.

يتمثل أحد هذه العوامل في تعهد الرئيس المنتخب جو بايدن بالعمل على إقرار تشريعات ولوائح وإصدار أوامر تنفيذية مراعية للقضايا المناخية. هناك أيضاً آمال متزايدة في أن الكونجرس سوف يسنّ مشروعات قوانين تحفيزية من شأنها تحويل مبالغ ضخمة من الأموال إلى التكنولوجيا النظيفة، على نحو مماثل لما قامت به إدارة أوباما أثناء الأزمة المالية العالمية.

بغض النظر عما يحدث على المستوى الفدرالي في الولايات المتحدة، فإن أعداداً متزايدة من الولايات والدول والشركات تلتزم بتحقيق صافي انبعاثات صفرية في غضون العقود القادمة. ومن شأن هذه الأهداف وحدها أن تؤدي إلى نشوء طلب كبير على الطاقة النظيفة والتقنيات الأخرى ذات الصلة بالمناخ.

قال آندرو بيب، المدير الإداري لشركة أوبيفيد فينتشرز (Obivid Ventures)، التي تستثمر في الطاقة النظيفة وشركات النقل الناشئة، في رسالة بريد إلكتروني: “هناك الكثير من المشاكل المتعلقة بالمناخ والتي ترافقها العديد من الحلول المختلفة، وهذا سيخلق العديد من الفرص لبناء شركات كبيرة وقيّمة في عدة مجالات، بدءاً من البطاريات إلى النقل إلى كفاءة الطاقة إلى التقاط الكربون، وغيرها”.

ومع ذلك، فإن الحجم النهائي للطفرة القادمة ومصيرها قد يتوقف على مدى سرعة تعافي الاقتصاد وشمولية هذا التعافي من الانكماش المدمِّر الناجم عن فيروس كورونا، وعلى مدى تعلم المستثمرين من تجربتهم خلال الإخفاق الأخير.

أين كانت مكامن الخلل؟

كانت الطفرة الأساسية في التكنولوجيا النظيفة عبارة عن كارثة ملحمية؛ فوفقاً لمبادرة إم آي تي للطاقة في عام 2016، أغدق المستثمرون حوالي 25 مليار دولار على الشركات الناشئة بين عامي 2006 و2011، لكنهم خسروا أكثر من نصف أموالهم في نهاية المطاف. في الحقيقة، فإن أكثر من 90% من الشركات التي تم تمويلها بعد عام 2007 لم تنجح حتى في تحقيق مردود بقيمة رأس المال المستثمَر فيها.

وفي حينه، كان هناك مجموعة من العوامل المسؤولة عن هذا الإخفاق.

أدى الركود العالمي إلى تجفيف سوق الاستثمارات الجديدة أو الاستثمارات في مراحل لاحقة؛ حيث إن انهيار أسعار السليكون بالتزامن مع قيام الصين بزيادة إنتاج الألواح الشمسية وجّه ضربة موجعة إلى الشركات الناشئة التي تطور ألواحاً رقيقة، وغيرها من الشركات الساعية وراء تطوير أساليب بديلة. كما واجه قطاع الوقود الحيوي المتقدم صعوبات كبيرة في المنافسة؛ حيث أدى الانكماش إلى إضعاف أسعار النفط وارتفعت عمليات التكسير الهيدروليكي لتشكل إضافة جديدة إلى احتياطات الغاز الطبيعي المحلي.

لكن تحليلاً أجرته جامعة إم آي تي خَلُص إلى أن “التوجهات الاقتصادية الخارجية” لم تكن المشكلة الأساسية. بل تمثلت المشكلة الأكبر في أن الشركات الناشئة التي لا تزال مستغرقة في مرحلة البحث والتطوير لم تكن ملائمة لاستثمارات رأس المال الجريء، التي كانت تعول على تحقيق عوائد مرتفعة في غضون ثلاث إلى خمس سنوات مثلما كانت الحال مع استثماراتها في مجال البرمجيات.

لقد احتاجت شركات التكنولوجيا النظيفة إلى الكثير من المال والوقت لإثبات عمل تقنياتها وتوسيع نطاقها، كما يقول جون وايانت، أستاذ علوم الإدارة والهندسة في جامعة ستانفورد، الذي شارك في تأليف كتاب يبحث في مواضع الخطأ التي أفضت إلى الكارثة.

وببساطة، كان قطاع الوقود الحيوي المتقدم وشركات الألواح الرقيقة للطاقة الشمسية وجميع الشركات الناشئة العاملة في مجال تخزين الطاقة في تلك الفترة ما تزال عالية التكلفة وغير ناضجة إلى الحد الذي يجعل منها غير قابلة للتسويق تجارياً، ولا تزال الكثير من هذه الشركات على هذه الحال حتى اليوم. كما يخلُص كتاب وايانت إلى أنه على الرغم من أن مؤسسي شركات التكنولوجيا النظيفة قد يمتلكون خبرة واسعة في تطوير التقنيات، إلا أن خبرة الكثيرين منهم كانت محدودة في مجال بناء القدرات التصنيعية والعمليات التشغيلية للشركات. وهذا ما جعل من الصعب عليهم أن يخوضوا المنافسة في مجالات السلع مع لاعبين أقوياء وهوامش ربح ضئيلة للغاية.

الطفرة التالية

لقد تغير الكثير منذ ذلك الوقت؛ إذ أصبحت التقنيات النظيفة نفسها أفضل وأرخص. كما تمتلك الطاقة المتجددة الآن القدرة على التنافس بشكل مباشر على التكلفة مع محطات الفحم والغاز الطبيعي، بعد البناء الهائل للمصانع ومزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في جميع أنحاء العالم. وبالمثل، فإن تحسن سعر وأداء بطاريات الليثيوم أيون يمنح السيارات الكهربائية جاذبية أكبر في أعين المستهلكين وشركات صناعة السيارات.

وتقول نانسي بفوند، المؤسس والشريك الإداري في دي بي إل بارتنرز (DBL Partners): “على الرغم من الصعوبات التي فرضتها إدارة ترامب، فإن المسيرة نحو الطاقة النظيفة والاقتصاد النظيف تتقدم بأقصى سرعة”.

وفي الوقت نفسه، التزمت اليابان والاتحاد الأوروبي والصين جميعاً بإزالة الكربون بشكل فعال من اقتصاداتها بحلول منتصف القرن تقريباً. وبالمثل، أعلنت أمازون وآبل ومايكروسوفت، وحتى عمالقة الوقود الأحفوري مثل بي بي (BP) وشيل (Shell)، وتوتال (Total)، عن خطط انبعاثات “صفرية” صافية.

أدت هذه التوجهات مجتمعة إلى استبعاد المخاطر الفنية من أجزاء كبيرة من قطاع التكنولوجيا النظيفة، ومهدت الطريق لتطوير أسواق جديدة كبرى. ولم يفوّت المستثمرون على أنفسهم الاستفادة من جزء كبير من كل ذلك.

من عام 2013 إلى عام 2019، قفزت استثمارات المرحلة المبكرة في شركات التكنولوجيا ذات الصلة بالمناخ من حوالي 420 مليون دولار إلى أكثر من 16 مليار دولار، وفقًا لتقرير بي دبليو سي. ويمثل ذلك ثلاثة أضعاف معدل نمو استثمارات رأس المال الجريء في الذكاء الاصطناعي، الذي يمثل في حد ذاته سوقاً مزدهرة في السنوات الأخيرة.

ظهر عدد من شركات رأس المال الجريء المكرسة للتعامل مع تغير المناخ خلال السنوات القليلة الماضية، منها: بريكثرو إنيرجي فينتشرز (Breakthrough Energy Ventures) وكونجرنت فينتشرز (Congruent Ventures) وإنيرجي إمباكت بارتنرز (Energy Impact Partners) وجي تو في بي (G2VP) وجرين تاون لابز (Greentown Labs) ولوركاربون كابيتال (Lowercarbon Capital) وبورهاوس (Powerhouse).

يستقطب هذا المجال أيضاً استثمارات ضخمة من شركات رأس المال الجريء، العام مثل سوفت بانك (Softback) وفاوندرز فند (Founders Fund) وسيكوا كابيتال (Sequoia Capital) وواي كومبيناتور (Y Combinator) والشركتين الأكثر ارتباطاً بأول طفرة وانهيار في مجال التكنولوجيا النظيفة وهما كلينر بيركنز (Kleiner Perkins) وخوسلا فينتشرز (Khosla Ventures). أفادت صحيفة وول ستريت جورنال في وقت سابق من هذا الشهر أن يونيون سكوير فينتشرز (Union Square Ventures) تجمع تمويلاً مخصصاً للمناخ تتراوح قيمته بين 100 و200 مليون دولار.

وقد أطلقت الشركات نفسها صناديقها الخاصة، بما في ذلك صندوق تعهد أمازون الخاص بالمناخ، وصندوق مايكروسوفت للابتكار في مجال المناخ، وصندوق أونيليفر للمناخ والطبيعة.

تقول إميلي كيرش، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة بورهاوس ومقرها أوكلاند، إن وصول بايدن إلى البيت الأبيض يمكن أن يؤدي على الفور إلى تعزيز سوق السيارات الكهربائية والبطاريات والبنية التحتية لشحن البطاريات. وتشير إلى أنه خلال حملة بايدن الانتخابية، تعهد الرئيس المنتخب بالتوقيع على سلسلة من الأوامر التنفيذية في “اليوم الأول”، بما في ذلك الأوامر التي من شأنها رفع معايير الاقتصاد في استهلاك الوقود وتوجيه مئات المليارات من الإنفاق الحكومي السنوي نحو الطاقة النظيفة والسيارات.

يتمثل هدف الإدارة في تركيب 500 مليون لوح شمسي و60 ألف توربين رياح في غضون خمس سنوات، جزئياً عن طريق الاستفادة من الأراضي الفدرالية وإتاحتها لمثل هذه التوسعات. ومن شأن هذا الهدف أن يؤدي إلى فتح سوق الولايات المتحدة أمام الطاقة المتجددة على نطاق واسع. وتقول كيرش إن خطة إنشاء برنامج بحثي جديد تابع لوزارة الطاقة يتسم بالطموح ويركز على المناخ -يُعرف باسم أربا-سي (ARPA-C)- قد تساعد في تسريع التقدم العلمي في تقنيات الهيدروجين الأخضر، وتخزين الطاقة طويل الأمد، وأساليب أكثر صداقة للبيئة في إنتاج الفولاذ والخرسانة والمواد الكيميائية.

ما الذي تغير اليوم؟

كيف ستتغير الأوضاع في ظل الطفرة الجديدة؟

يقول فارون سيفارام، كبير الباحثين في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا وأحد مؤلفي تقرير إم آي تي، إن هناك عدة طرق يمكن للمستثمرين من خلالها تجنب الأخطاء السابقة؛ حيث يمكنهم الاستثمار في مراحل لاحقة، بعد أن يكون قد تم التعامل مع المخاطر التكنولوجية، والتركيز على الفرص الرقمية والبرمجية التي لا تتطلب بناء مصانع أو محطات ضخمة؛ واعتماد نموذج استثماري لا يعول على الحصول السريع على العوائد؛ والبحث عن التقنيات التي تتكامل مع الأساليب الحالية لتصنيع المنتجات بدلاً من منافستها.

يقوم المستثمرون باتخاذ جميع هذه الإجراءات بدرجات متفاوتة؛ حيث يقوم صندوق بيل جيتس بريكثرو إنيرجي فينتشرز البالغة قيمته مليار دولار -والذي يتضمن استثمارات من اثنين من أبرز مستثمري رأس المال الجريء في فترة الازدهار السابقة، وهما جون دوير وفينود خوسلا- بالاستثمار في دورات مدتها 20 عاماً. وبالمثل، فإن حاضنة “تكنولوجيا حل المشاكل الصعبة” التابعة لإم آي تي، والمسماة إنجين (Engine)، لا تنتظر استعادة أموالها المستثمرة قبل مدة 12 إلى 18 عاماً.

علاوة على ذلك، فإن دورة الاستثمار الحالية أكثر تنوعاً بكثير.

ففي حين كانت الطفرة الأولى تدور في المقام الأول حول تنظيف قطاع الطاقة وتنطوي على جهود مبكرة لمعالجة مشاكل النقل -وتركزت بشكل خاص على الألواح الرقيقة للطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية وقطاع الوقود الحيوي المتقدم- فإن رأس المال الجريء اليوم يتضمن تنوعاً أوسع نطاقاً؛ حيث تقوم صناديق رأس المال الجريء بتمويل شركات استبدال البروتين مثل بيوند ميت (Beyond Meat) وإمبوسيبل فوودز (Impossible Foods)، والشركات الناشئة التي تطور أساليب أنظف لإنتاج الإسمنت والصلب مثل كاربون كيور تيكنولوجيز (CarbonCure Technologies) وبوسطن ميتال (Boston Metal)، والشركات التي تعمل على إزالة الكربون وإعادة تدويره مثل كلايم ووركز (Climeworks) وأوبوس 12 (Opus 12)، والشركات التي تدعم إنشاء أسواق وإزاحة الكربون مثل باشاما (Pachama) وإنديجو آج (Indigo Ag) ونوري (Nori)، وتلك التي توفر طرقاً لتقليل مخاطر حرائق الغابات المرتبطة بتغير المناخ مثل زونهيفن (Zonehaven) وباز سولوشنز (Buzz Solutions) وأوفرستوري (Overstory).

مخاطر جديدة مرافقة للطفرة الجديدة

شدد كل مستثمر تمت مقابلته أثناء إعداد هذا المقال على أن التقنيات قد نضجت، وأن السوق الآن مهيأة لهذه الشركات، وأنه قد تم استيعاب الدروس المكتسبة بعد تجربة مريرة من الإخفاق السابق.

لكن أي طفرة جديدة -بلا استثناء- تخلق ضجيجاً مفرطاً حول بعض القطاعات واللاعبين، وتكشف في النهاية عن مخاطر أعمق في السوق مما كان واضحاً في بداياتها.

هناك بعض المخاطر الواضحة منذ الآن؛ إذ لا يزال من الممكن أن يزداد وضع الاقتصاد الهش سوءاً أو يستغرق وقتاً طويلاً للتعافي بشكل كامل، ما قد يحد من توافر رأس المال للاستثمارات والمشاريع الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، سيستمر اللاعبون الأقوياء العاملون في مجال الوقود الأحفوري في بذل قصارى جهودهم للاحتفاظ بهيمنتهم على السوق، وسيواصل الكثير من الجماعات والسياسيين الكفاح ضد سياسات المناخ الطموحة.

وسيتطلب الأمر الكثير من البنية التحتية الداعمة المكلفة لجعل بعض هذه الرهانات تؤتي ثمارها، مثل إنشاء خطوط الأنابيب لنقل ثاني أكسيد الكربون الملتقَط أو شبكة حديثة لاستيعاب الحصص المتزايدة من الطاقة المتجددة.

يقول سيفارام إن بعض الأسواق ربما بدأت تشهد زيادة في الطلب والأسعار، بما في ذلك أسواق السيارات الكهربائية. كما أن بعض الأموال التي تم استثمارها في الشركات الناشئة المتخصصة في إزالة الكربون وأسواق الكربون قد أثارت دهشة المراقبين المتخصصين بمتابعة هذه المجالات.

وعلى الرغم من ذلك، يضيف سيفارام أن الخطر الأكبر يتجسد في أن التقنيات الواعدة لن تحصل على التمويل المبكر الذي تحتاجه حتى تتمكن من التطور والتحول إلى شركات ناجحة.

مع تجنب معظم صناديق رأس المال الجريء من جديد للاستثمارات طويلة الأجل هذه المرة وامتلاكها رؤية واضحة للابتعاد عن المخاطر الفنية، ستبرز حاجة متنامية إلى تمويل عام سخي لضمان تحقيق الاختراقات التقنية التي ستقود إلى تخفيض التكاليف بشكل أكبر وسد بعض الفجوات الهامة في مجال الطاقة النظيفة. إن قدرة بايدن من عدمها على تخصيص أموال فدرالية كافية لوضع أسس الجيل القادم من الشركات الناشئة في السوق قد تمثل أحد العوامل الحاسمة في تحديد مدى استدامة وطول أمد هذه الطفرة.