هل تحقق شركة ديب مايند الأهداف الطبية التي أنشئت لأجلها؟

12 دقيقة
ما هو الهدف من إنشاء شركة ديب مايند؟
حقوق الصورة: شترستوك. تعديل إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في مارس/ آذار 2016، كان ديميس هاسابيس، الرئيس التنفيذي والشريك المؤسس لشركة ديب مايند، في سيول بكوريا الجنوبية، وكان يشهد دخول برنامج الذكاء الاصطناعي، الذي طورته شركته، التاريخ، فقد قام برنامج الكمبيوتر ألفا غو (AlphaGo)، الذي تم تدريبه لإتقان لعبة غو (Go) اللوحية القديمة، بلعب مباراة من خمسة أشواط ضد لي سيدول، وهو أحد كبار المحترفين الكوريين وكان يتمتع بثاني أكبر عدد من الفوز في البطولات الدولية في ذلك الوقت. يعتبر الكثيرون لعبة غو بمثابة اللعبة اللوحية الأكثر تعقيداً في العالم، إذ أن إتقانها يستغرق سنوات.

كان لي يتوقع أنه سيهزم برنامج الذكاء الاصطناعي لشركة ديب مايند “بسهولة”، لكن ألفا غو فاز بنتيجة 4-1. صدم هذا الفوز الخبراء في لعبة غو وفي الذكاء الاصطناعي على حد سواء، وغيّر تصور العالم لما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوم به.

ولكن بينما كان الفريق في شركة ديب مايند يحتفل بالفوز، كان هاسابيس يفكر في تحدٍّ أكبر. ويتذكر وقوفه خلف الكواليس مع ديفيد سيلفر، الذي قاد تطوير برنامج ألفا غو، قائلاً: “قلت له إن الوقت قد حان الآن”.  

ما بعد لعبة غو

عند مشاهدته لتطبيقات الذكاء الاصطناعي لشركة ديب مايند وهي تلعب لعبة غو، أدرك هسابيس أن تقنيات شركته أصبحت جاهزة لمواجهة أحد أكثر ألغاز البيولوجيا أهمية وتعقيداً، والذي كان الباحثون يحاولون حله على مدى 50 عاماً، ألا وهو التنبؤ ببنية البروتينات. 

تحدد البنية ثلاثية الأبعاد للبروتينات كيفية تفاعلها وسلوكها في الجسم. لكن عدداً كبيراً من البروتينات المهمة تتمتع ببنى لا يعرفها علماء البيولوجيا حتى الآن. إن استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بها بدقة من شأنه أن يوفر أداة لا تقدر بثمن للمساعدة في فهم الأمراض، من السرطان إلى مرض كوفيد. تعد البروتينات هدفاً أساسياً للعديد من الأدوية وإحدى المكونات الرئيسية في العلاجات الجديدة. وسيؤدي الفهم السريع لبنيتها إلى تسريع عملية تطوير علاجات ولقاحات جديدة.  

في عام 2020، كشفت شركة ديب مايند، المملوكة لشركة ألفابت (Alphabet)، عن تطبيق الذكاء الاصطناعي ألفا فولد 2 (AlphaFold2)، الذي يمكنه التنبؤ بشكل البروتينات وصولاً إلى أقرب ذرة. ويقول هسابيس: “إنه الأمر الأكثر تعقيداً مما قمنا به على الإطلاق”.

ألفا فولد: جزء من نجاح أكبر

يعدّ نجاح برنامج ألفا فولد جزءاً من شيء أكبر أيضاً، والذي يشير إلى تغيير منحى مختبر الذكاء الاصطناعي، إذ يتحول تركيز الشركة من الألعاب إلى العلوم، حيث تأمل أن يكون لها تأثير أكبر في العالم الحقيقي. تعدّ محاولة حل المشكلات العلمية تتويجاً لما بدأ هسابيس في تحقيقه، وهذا هو المجال الذي يريد أن يشتهر به. ويقول: “لهذا السبب أنشئت شركة ديب مايند. وفي الواقع، هذا هو السبب في عملي في مجال الذكاء الاصطناعي طوال مسيرتي المهنية”.

يفكر هسابيس بشأن البروتينات منذ 25 عاماً، فقد تعرّف على هذه المشكلة عندما كان طالباً جامعياً في جامعة كامبريدج في التسعينيات. ويقول: “كان أحد أصدقائي هناك مهووساً بهذه المشكلة. كان يطرحها في أي فرصة، سواء في الحانة أو عند لعب البلياردو، وكان يخبرني أننا إذا تمكنّا من معرفة بنية البروتينات، فسيُحدث ذلك ثورة في مجال البيولوجيا. وظل شغفه ذلك متعلقاً بي بشكل دائم”. 

كان ذلك الصديق هو تيم ستيفنز، والذي يعمل الآن باحثاً في جامعة كامبريدج ويدرس بنية البروتينات. يقول ستيفنز: “إن البروتينات هي الآلات الجزيئية التي تغذي الحياة على الأرض”.

اقرأ أيضاً: حوارات جادة حول قيمة الذكاء الاصطناعي لا بد من إجرائها

نحو دراسة البروتينات باستخدام الذكاء الاصطناعي

كل ما يفعله الجسم تقريباً يقوم به عن طريق البروتينات، فهي تهضم الطعام وتقلص العضلات وتحفز الخلايا العصبية وتكشف الضوء وتعزز الاستجابات المناعية والكثير من الأمور الأخرى. لذلك فإن فهم وظيفة كل بروتين هو أمر بالغ الأهمية لفهم آلية عمل الأجسام، وما الذي يحدث عندما لا تقوم بوظيفتها، وكيفية إصلاحها.

يتكون البروتين من شريط من الأحماض الأمينية، والتي تقوم القوى الكيميائية بثنيها ضمن عقدة ذات بنية معقدة. ويحدد الشكل ثلاثي الأبعاد الناتج وظيفته. على سبيل المثال، يكون الهيموغلوبين، وهو بروتين ينقل الأكسجين في أنحاء الجسم ويعطي الدم لونه الأحمر، على شكل كيس صغير، ما يتيح له التقاط جزيئات الأكسجين في الرئتين. وتسمح بنية البروتين الشائك لفيروس كورونا بالارتباط بالخلايا. 

ما هو الهدف من إنشاء شركة ديب مايند؟
نموذج تم إنشاؤه بواسطة برنامج ألفا فولد يُظهر كيفية انثناء الأحماض الأمينية لتشكيل بروتين. الصورة مقدمة من شركة ديب مايند. 

الأمر المهم هو أنه من الصعب معرفة بنية البروتين، وبالتالي وظيفته، من شريط الأحماض الأمينية. يمكن للشريط المفرود دون انثناء أن يتخذ أشكالاً محتملة يبلغ عددها 10 أسّ 300، وهو رقم يعادل كل الحركات الممكنة في لعبة غو.

إن التنبؤ بهذه البنية في المختبر باستخدام تقنيات مثل دراسة البلورات بالأشعة السينية هو عمل شاق، فقد تم إجراء دراسات دكتوراه كاملة لمعرفة انثناءات بروتين واحد. وتم إنشاء مسابقة CASP (التقييم الأساسي للتنبؤ بالبنى) طويلة الأمد في عام 1994 لتسريع العملية عن طريق إجراء تقييم لطرق التنبؤ المحوسبة كل عامين. ولكن لم تقترب أي تقنية من دقة العمل المخبري. وبحلول عام 2016، كان التقدم بطيئاً جداً على مدى عقد من الزمان.

وفي غضون أشهر من نجاح برنامج ألفا غو في عام 2016، وظفت شركة ديب مايند عدداً من علماء البيولوجيا وشكلت فريقاً صغيراً متعدد التخصصات لدراسة انثناء البروتين. آتى ما كانوا يعملون عليه أولى ثماره في عام 2018، عندما فازت شركة ديب مايند بمسابقة CASP 13، متفوقةً على التقنيات الأخرى بفارق كبير. ولكن خارج مجال البيولوجيا، لم يولِ سوى القليل اهتماماً كبيراً بذلك. 

اقرأ أيضاً: أهم العبر من قصة تطور الذكاء الاصطناعي منذ هزيمة كاسباروف حتى التعلم العميق

ألفا فولد 2

تغير ذلك عندما ظهر برنامج ألفا فولد 2 بعد عامين. فقد فاز في مسابقة CASP، وهي المرة الأولى التي يتنبأ فيها الذكاء الاصطناعي ببنية البروتين بدقة تماثل دقة النماذج التي يتم إنشاؤها في مختبر تجريبي، وذلك بهامش خطأ لا يتجاوز عرض الذرة غالباً. وأصيب علماء البيولوجيا بالدهشة من مدى دقته. 

يقول هسابيس إن مشاهدة برنامج ألفا غو وهو يلعب في سيول يذكره بلعبة على الإنترنت تسمى فولد إت (FoldIt)، والتي تم إطلاقها في عام 2008 من قبل فريق بقيادة ديفيد بيكر، الباحث البارز في مجال البروتينات بجامعة واشنطن. تطلب لعبة فولد إت من اللاعبين استكشاف بنية البروتين، على شكل صور ثلاثية الأبعاد تظهر على الشاشة، وذلك عن طريق ثنيها بطرق مختلفة. يأمل الباحثون الذين طوروا اللعبة أن يؤدي لعب الكثير من الأشخاص إلى إمكانية ظهور بعض البيانات حول الأشكال المحتملة لبعض البروتينات. نجح ذلك، وساهم اللاعبون في عدد من الاكتشافات الجديدة.

“إذا كان بإمكاننا محاكاة أعقد العمليات الحدسية في لعبة غو، فلماذا لا يمكننا تطبيق ذلك على البروتينات؟”

لعب هسابيس تلك اللعبة عندما كان باحثاً في مرحلة ما بعد الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وهو في العشرينات من عمره. وكان قد أصيب بالذهول من الطريقة التي يمكن أن يؤدي بها الحدس البشري الأساسي إلى اكتشافات حقيقية، سواء كان ذلك القيام بخطوة في لعبة غو أو التوصل إلى تركيب جديد في لعبة فولد إت. 

ويقول هسابيس: “كنت أفكر فيما قمنا به مع برنامج ألفا غو. لقد قمنا بمحاكاة الحدس المذهل لدى محترفي لعبة غو. وفكرت أنه إذا كان بإمكاننا محاكاة أعقد العمليات الحدسية في لعبة غو، فلماذا لا يمكننا تطبيق ذلك على البروتينات؟” 

لم تكن هاتان المشكلتان مختلفتين بشكل ما. فكما هو الحال في لعبة غو، يعدّ انثناء البروتين مشكلة ذات تعقيد تشكيلي هائل بحيث لا تُجاريه أساليب الحوسبة عالية الأداء. وهناك شيء آخر مشترك بين لعبة غو وانثناء البروتين وهو توفر الكثير من البيانات حول كيفية حل المشكلة. استخدم برنامج ألفا غو تاريخاً لا نهاية له من ألعابه السابقة، واستخدم برنامج ألفا فولد البنى البروتينية الموجودة في بنك بيانات البروتينات، وهو قاعدة بيانات دولية للبنى التي تم حلها وإضافتها من قبل علماء البيولوجيا على مدى عقود.

يستخدم برنامج ألفا فولد 2 شبكات الانتباه، وهي تقنية قياسية للتعلم العميق وتتيح للذكاء الاصطناعي التركيز على أجزاء معينة من بيانات الإدخال الخاصة به. تدعم هذه التقنية نماذج اللغة مثل GPT-3، حيث توجّه الشبكة العصبية إلى الكلمات ذات الصلة في الجملة. وبالمثل، يستهدف برنامج ألفا فولد 2 الأحماض الأمينية ذات الصلة في التسلسل، مثل الأزواج التي قد تكون مع بعضها في بنية منثنية. ويقول ستيفنز: “لقد فازوا بمسابقة CASP من خلال جمع كل تلك الأشياء التي كان علماء البيولوجيا يدفعون نحوها لعقود ثم تطوير الذكاء الاصطناعي”.

على مدار العام الماضي، بدأ برنامج ألفا فولد 2 في إحداث تأثير، إذ نشرت شركة ديب مايند وصفاً مفصلاً لكيفية عمل النظام وأصدرت شفرة المصدر. كما أنشأت أيضاً قاعدة بيانات عامة مع المعهد الأوروبي للمعلومات البيولوجية، والتي تملؤها ببنى بروتينية جديدة كلما تنبأ بها الذكاء الاصطناعي. تحتوي قاعدة البيانات حالياً على حوالي 800 ألف إدخال، وتقول شركة ديب مايند إنها ستضيف خلال العام القادم أكثر من 100 مليون إدخال، أي كافة البروتينات المعروفة علمياً تقريباً. 

تقول شارلوت دين، كبيرة العلماء في شركة إكسنشيا Exscientia، وهي شركة لاستكشاف الأدوية عن طريق الذكاء الاصطناعي وتتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، ورئيسة مختبر معلومات البروتينات في جامعة أكسفورد، إن الكثير من الباحثين لا يزالون غير مدركين تماماً لما فعلته شركة ديب مايند. كانت دين أيضاً إحدى الأشخاص الذين راجعوا الورقة التي نشرتها شركة ديب مايند عن برنامج ألفا فولد في مجلة “نيتشر” (Nature) العلمية العام الماضي. وتقول: “لقد غيرتِ الأسئلة التي يمكنك طرحها”.

اقرأ أيضاً: كيف يغير الذكاء الاصطناعي من طبيعة الحواسيب؟

ألفا فولد في العلوم الطبية

بدأت مجموعة من الفرق حول العالم في استخدام برنامج ألفا فولد في العمل على مقاومة المضادات الحيوية والسرطان وفيروس كورونا وغيرها. ومن أوائل الذين تبنوا البرنامج كان رولاند دنبراك من مركز فوكس تشيس (Fox Chase) للسرطان في فيلادلفيا. وهو يقود فريقاً يستخدم أجهزة الكمبيوتر للتنبؤ ببنى البروتينات منذ سنوات. ثم تستخدم الفرق الأخرى في المختبر هذه البنى لتوجيه تجاربها. 

قدم برنامج ألفا فولد مستوى غير مسبوق من الدقة لعمل دنبراك. ويقول عن تنبؤاته: “إنها دقيقة بما يكفي لإصدار أحكام بيولوجية، وذلك لتفسير الطفرات في جين السرطان. لقد كنا نحاول دائماً القيام بذلك باستخدام النماذج التي يتم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر، لكننا غالباً ما كنا نخطئ”. 

ويقول دنبراك إنه يمكنه الآن أن يكون أكثر ثقة فيما يقدمه لزملائه عندما يطلبون منه تصميم نماذج بروتينية. بخلاف ذلك، يقول “أشعر حقاً بالتوتر والقلق من أنهم سيعودون إلي قائلين إنهم أهدروا كل تلك الأموال وكان نموذجي فظيعاً دون أن يكتب له النجاح”. 

ويقول دنبراك أن برنامج ألفا فولد لا يزال بإمكانه ارتكاب الأخطاء، ولكنه عندما يعمل بشكل جيد، فقد يكون من الصعب معرفة الفرق بين تنبؤاته والبنية التي يتم إنشاؤها في المختبر. وهو يجري تنبؤات ألفا فولد على منصة كمبيوتر تسمى كولاب فولد (ColabFold)، والتي تستضيفها جامعة هارفارد وتعمل على منصة جوجل لوحدات معالجة الرسوميات (Google GPUs). ويقول: “أقوم كل ليلة بإعداد تنبؤ واحد قبل أن أنام، ويستغرق إجراؤه عدة ساعات”. 

ويقول كليمنت فيربا، عالم البيولوجيا البنيوية بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو: “إنها أداة مفيدة للغاية ويستخدمها الجميع في مختبري”. يعمل فيربا على السرطان في الغالب، ولكنه انضم خلال الأسابيع الأولى من جائحة كوفيد-19 إلى اتحاد جديد من الباحثين الذين يدرسون فيروس كورونا. وكان يريد على وجه الخصوص أن يعرف كيف تقوم البروتينات الفيروسية بالاستيلاء على البروتينات المضيفة. 

أنشأ فيربا وزملاؤه جزءاً من بنية البروتين الفيروسي الذي كانوا مهتمين به، لكن قطعة منه كانت تنقصهم. تحتوي العديد من البروتينات على نطاقات متعددة، أي أقسام ذات انثناءات كثيفة يبلغ طولها بضع مئات من الأحماض الأمينية، والتي يمكن أن يكون لكل منها وظيفة منفصلة. قد يرتبط نطاق ما بالحمض النووي، وقد يرتبط نطاق ثانٍ ببروتين آخر، وهكذا. ويقول دنبراك: “إنها بمثابة وحوش متعددة الرؤوس”.

من الناحية البنيوية، تشبه النطاقات العقد الموجودة في الحبل، حيث تتصل بواسطة شرائط رخوة متعرجة تلتف حولها. في البروتين الذي كان يدرسه فيربا، اكتشف فريقه الشكل التقريبي للحبل ولكن دون البنية التفصيلية لجميع العقد. دون هذه التفاصيل، لم يكن هناك سوى القليل مما يمكنهم قوله حول كيفية عملها.

اقرأ أيضاً: ذكاء اصطناعي من ديب مايند يكاد يتفوق على جميع اللاعبين البشر في لعبة ستار كرافت 2

أين تكمن قوة برنامج ألفا فولد؟

ومع ذلك، أدرك الفريق أن هذا البروتين كان أحد تلك البروتينات التي سبق لشركة ديب مايند أن عالجتها من خلال برنامج ألفا فولد وشاركتها عبر الإنترنت. لم يكن التنبؤ الذي أجراه ألفا فولد مثالياً، إذ لم تكن الشرائط الحلقية صحيحة تماماً. ولكنه كان يتمتع بشكل النطاقات الأربعة للبروتين. أخذ الباحثون تنبؤات برنامج ألفا فولد للنطاقات وأضافوها إلى الشكل التقريبي الذي كان لديهم. وكانت النتيجة قريبة بشكل ملحوظ. 

ويقول فيربا: “أتذكر تلك اللحظة التي رأيتها فيها وهي ملائمة. كان الأمر رائعاً. أصبحنا في ذلك الوقت الوحيدين في العالم الذين لديهم البنية الكاملة”. ونشر الفريق النتائج التي توصل إليها بعد فترة وجيزة.

يعتقد فيربا أن قوة ألفا فولد تكمن في العثور على بنى بروتينية لم تتم دراستها بعد بشكل كامل. ويقول: “تمت دراسة العديد من البروتينات التي نهتم بها لعقود. لقد أمضى الناس حياتهم المهنية وهم يعملون عليها، ولذلك لدينا فكرة جيدة إلى حد ما عن شكلها”. ولكن لا يزال هناك الكثير من الأمور المجهولة. 

فعلى سبيل المثال، يهتم فيربا بالكيناز. يعدّ الكيناز أحد أنواع الإنزيمات ويلعب دوراً مهماً في تنظيم الوظيفة الطبيعية للخلايا. إذا توقفت إنزيمات الكيناز عن العمل بشكل صحيح، فقد تؤدي إلى الإصابة بالسرطان. لم يتم الفهم الجيد إلا لما يقرب من نصف إنزيمات الكيناز الموجودة في جسم الإنسان والبالغ عددها نحو 500 تقريباً، بينما تُعرف البقية باسم الكينومات المبهمة. 

يهتم الباحثون مثل فيربا ودنبراك بتطوير أدوية للسرطان تستهدف الكينوم. ولكن تبدأ هنا قيود ألفا فولد. 

اقرأ أيضاً: ريترو: نموذج لغوي جديد من ديب مايند يستطيع التفوق على نماذج تفوقه حجماً

قيود ألفا فولد في دراسة البروتينات

نظراً لأن العمل على بنية البروتين في المختبر هو أمر مكلف، فلا يتم عادةً إجراء ذلك إلا بمجرد اختيار البروتين كمرشح واعد، والذي قد يستغرق شهوراً خلال عملية استكشاف الدواء. وتقول دين إن الأمل يتمثل في أن يتمكن ألفا فولد من عكس هذا التسلسل، ليجعل العملية تتحرك بشكل أسرع. وتضيف: “يمكنني الآن أن أبدأ بالبنية، حيث يمكنني تحديد مكان وجود جيوب على السطح والأماكن التي يمكنني فيها ربط جزيئات الدواء”.

“تكون هذه التحولات الصغيرة في كثير من الأحيان بمثابة جوهر الوظيفة البيولوجية”.

ومع ذلك، تقرّ دين بوجود حاجة إلى أكثر من مجرد بنية ثابتة لفهم كيفية تفاعل دواء ما مع البروتين بشكل كامل، فالبروتينات لا تبقى ثابتة، إذ يمكن أن تتحول بنيتها من خلال عمليات إعادة تشكيل دقيقة. ويقول فيربا: “تكون هذه التحولات الصغيرة في كثير من الأحيان بمثابة جوهر الوظيفة البيولوجية”.  

علاوة على ذلك، قد يكون البروتين متاحاً لتلقي الدواء في إحدى حالاته دون غيرها. واستناداً إلى ما يراه الباحثون حتى الآن، يبدو أن برنامج ألفا فولد يتنبأ بالحالة الأكثر شيوعاً لهذه البنى، والتي قد لا تكون الحالة المهمة لتطوير الأدوية. 

ويمكن أيضاً للبروتينات أن تغير شكلها عندما ترتبط الأدوية بها، ما قد يؤثر على طريقة عمل الدواء. في أسوأ السيناريوهات، يمكن أن يكون لارتباط الدواء بالبروتين تأثيرات غير متوقعة على البروتينات المجاورة، وقد يؤدي ذلك إلى عكس ما تم تطوير الدواء من أجله، كتنشيط بعض الوظائف بدلاً من تثبيطها، على سبيل المثال. 

يعتقد أولا إنغفيست، رئيس الذكاء الاصطناعي الجزيئي في علوم الاكتشاف بشركة أسترازينيكا، أن البنى التي يولدها الذكاء الاصطناعي ستساعد في تحديد أهداف الأدوية في نهاية المطاف، ولكن لم يتم ذلك حتى الآن. ويقول: “لكي يكون برنامج ألفا فولد قادراً على إحداث تحوّل جذري، لا بدّ من أن تتبعه أساليب حوسبة أفضل لفهم ديناميكيات البروتينات والتعامل مع مركبات البروتين الأكبر حجماً”.

تخطط شركة ديب مايند لمعالجة العديد من هذه المشكلات في الإصدار التالي من البرنامج. يتمثل أحد خطوط العمل في إنشاء أنماط متعددة من شكل البروتين لمحاولة التوصل إلى ديناميكياته. إن الطريقة التي يتحرك بها البروتين تحكمها عوامل كيميائية وفيزيائية معقدة، ولذلك قد يتطلب النموذج المتحرك الكامل تزويد برنامج ألفا فولد بكميات كبيرة من المعلومات الإضافية حول هذه العملية. قد يكون الجانب السلبي لهذا النهج هو أن المعلومات قد تكون بمثابة أحد القيود، ما يحدّ من القدرات التنبؤية للأداة. 

خلال الصيف الماضي، أطلقت شركة ديب مايند برنامج ألفا فولد ملتي تايمر (AlphaFold Multimer)، والذي تم تصميمه للتنبؤ ببنية المركبات البروتينية، وهي بنى فائقة مكونة من عدة بروتينات مجتمعة مع بعضها. لكنه كان أقل دقة بكثير من برنامج ألفا فولد، وعرضةً لحدوث أخطاء أكثر وضوحاً. 

اقرأ أيضاً: نظام ذكاء اصطناعي من ديب مايند يتنبأ بموعد ومكان هطل الأمطار بدقة مذهلة

تعلم الذكاء الاصطناعي من الأخطاء الغبية

تعدّ الأخطاء الغبية إحدى سمات أفضل تطبيقات الذكاء الاصطناعي حتى. يقول هسابيس إن برنامج ألفا غو ارتكب خطأً أساسياً في المباراة الواحدة التي خسرها أمام لي سيدول. ويضيف: “يمكنك التفكير في الأمر على أنه خطأ برمجي إلى حد ما. لكن المشكلة هي أن هذا الخطأ هو في المعرفة التي يتمتع بها، ولا يمكنك الدخول إليه وتصحيحه ببساطته”. 

يعود ذلك إلى أنه لا يمكن إصلاح الشبكة العصبية بسهولة دون التأثير على كيفية عملها بشكل أساسي. يقول هسابيس: “تدمر الإصلاحات البرمجية المباشرة قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلم، لأن السؤال هو كيف سيعرف متى سيستخدمها؟ يتعارض الأمر مع نقطة التعلم”. 

بدلاً من ذلك، تقوم شركة ديب مايند بجمع أمثلة عن أسوأ أخطاء برنامج ألفا فولد وتدريبه على التعامل معها بشكل صحيح. يريد هسابيس من الباحثين تفكيك ألفا فولد للعثور على الأمور التي لا تعمل، ومشاركة النتائج مع فريقه حتى يتمكنوا من جعل الإصدار القادم من ألفا فولد أفضل.

تبدأ شركة ديب مايند فصلاً جديداً من خلال برنامج ألفا فولد، إذ تستثمر الشركة في فريق يسمى الذكاء الاصطناعي من أجل العلم (AI for Science). وقد أنتجت سلسلة من المنشورات خلال الأشهر القليلة الماضية، وذلك في مجالات تتراوح من التنبؤ بالطقس إلى الرياضيات وكيمياء الكم والاندماج. لم يكن لأي منها نفس تأثير ألفا فولد، لكن اتساع نطاق الطموح واضح. ويقول هسابيس: “ليس لدي كتاب صغير بالمشاكل التي أود معالجتها. ولكن لدي ما يشبه ذلك في ذهني”.

يمثل ألفا فولد فصلاً جديداً بالنسبة لهسابيس أيضاً. ففي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أعلن أنه حصل على وظيفة جديدة، فهو الآن يوفق بين دوره القيادي في شركة ديب مايند ودوره كرئيس تنفيذي في شركة آيزومورفيك لابس (Isomorphic Labs) الناشئة، وهي شركة جديدة تابعة لشركة ألفابت وستركز حصرياً على استخدام قوة الذكاء الاصطناعي في مجال التكنولوجيا البيولوجية والطب. 

اقرأ أيضاً: ديب مايند: نظام ذكاء اصطناعي يحل لغزاً في علم الأحياء عمره 50 عاماً

الذكاء الاصطناعي: لغة وصفية للبيولوجيا

في هذه المرحلة، لن يذكر هسابيس ما ستفعله هذه الشركة، قائلاً: “نحن ما نزال في البداية، لذلك ليس هناك الكثير لنقوله. بشكل أساسي، أعتقد أن هناك الكثير من الأشياء مثل ألفا فولد، كجوانب مختلفة من عملية استكشاف الأدوية التي يمكن أن تكون قابلة لاستخدام الذكاء الاصطناعي. أعني القيام بذلك فعلاً، وليس مجرد أداة تحليلية صغيرة تستخدم بعيداً عن العملية”.

في المنشور الذي أعلن فيه هسابيس عن شركة آيزومورفيك لابس في مدونته، كتب أنه كما تبين أن الرياضيات هي اللغة الوصفية المناسبة للفيزياء، فقد يتضح أن الذكاء الاصطناعي يلعب دوراً مشابهاً بالنسبة للبيولوجيا. 

إن تحويل هذا العمل إلى شركة ناشئة خاصة به يسهّل توجيه التركيز وتكريس الموارد التي يحتاجها. ويقول: “لن يكون من المنطقي توظيف الكثير من الكيميائيين في شركة ديب مايند”. ولكن من الصحيح أيضاً أن شركة ديب مايند ما زالت مقتصرة حتى الآن على الأبحاث البحتة (بخلاف المساهمة في منتجات شركة ألفابت)، فإن الشركة الناشئة ستتطلع إلى الربح مما يمكن أن تقدمه في مجال الصناعات الدوائية. 

ويقول هسابيس: “يمكنك اعتبار الأمر على أنه يشبه إلى حد ما ما تقوم به شركة ديب مايند مع جوجل. تؤدي أبحاثنا إلى المئات من منتجات جوجل، حيث تحتوي كل منتجات جوجل تقريباً التي يتم التعامل معها الآن على بعض تقنيات شركة ديب مايند. يمكنك اعتبار شركة آيزومورفيك لابس على أنها نافذتنا للعالم الحقيقي خارج جوجل”.

يعدّ برنامج ألفا فولد بمثابة بداية وليس نقطة نهاية بالنسبة لهسابيس. ويقول: “سنشهد نوعاً من النهضة الجديدة في مجال العلوم، حيث تستمر تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه في أن تصبح أكثر تعقيداً ويتم تطبيقها في مجموعة واسعة من المجالات العلمية. مع تقدم الذكاء الاصطناعي، ستصبح المزيد من المشاكل قابلة للحل”.