مخطوطات العصور الوسطى تحتوي على مكونات فعَّالة بيولوجياً

4 دقائق
المصدر: shutterstock.com
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تعدَّ (Lylye of Medicynes) مخطوطة من القرن الخامس عشر، وتوجد في مكتبة بودلي في أكسفورد بإنجلترا، وهي ترجمة باللغة الإنجليزية الوسطى لأطروحة لاتينية سابقة حول الأمراض، وتحتوي على دراسات للحالات ووصفات للعلاج، وقد كانت هذه المخطوطة مؤثرة، كما يُعتقد أنها تعود في الأصل إلى روبرت بروك؛ وهو العطار الشخصي لملك إنجلترا هنري السادس.

وهذه المخطوطة معروفة جداً لدى المؤرخين الذين يدرسون العلاجات الطبية في العصور الوسطى، وهم يعرفون منذ فترة طويلة أن بعض الوصفات تحتوي على مكونات لها خصائص مضادة للبكتيريا؛ مثل العسل.

لكن الإجابة عن السؤال الأشمل حول فعالية أدوية العصور الوسطى هذه بشكل عام أصعبَ بكثير؛ حيث تقول إرين كونيلي (من جامعة بنسلفانيا) وزملاؤها (من جامعة ووريك في المملكة المتحدة): “إن الأدوية التي استخدمها الأطباء والأشخاص العاديون في أوروبا في العصور الوسطى قد تم رفضها إلى حدٍّ كبير؛ لكونها أدوية وهمية أو خرافية”.

ويبدو الآن أن وجهة النظر تلك على وشك أن تتغير؛ إذ تقول كونيلي وزملاؤها إن وصفات العصور الوسطى اتَّبعت نمطاً منطقياً للعلاج يُضاهي الفحص الطبي الحديث، ويأتي الدليل الذي اعتمدوا عليه من تنقيب بيانات أنماط المكونات الموجودة في مخطوطة (Lylye of Medicynes)؛ حيث يكشف عن وجود شبكات من المواد ذات الخصائص الفعَّالة بيولوجياً في الوصفات.

ولنذكر أولاً بعض المعلومات الأساسية.

تحتوي المخطوطة على 360 وصفة، ولكلٍّ منها شكل نموذجي يبدأ بنوع العلاج (شراب مثلاً أو مرهم أو ضماد)، ثم تحديد مرحلة المرض التي يجب تطبيقه فيها، وتنتهي بقائمة المكونات.

ولا يعد تنقيب البيانات في هذه المخطوطة مهمة سهلة؛ حيث تذكر الوصفات أكثر من 3000 عنصر لعلاج 113 حالة مختلفة، وهناك 30 حالة من بين هذه الحالات تصف بعض الأعراض مثل: (جفاف الجلد وتشققه، والتقيُّح، والاحمرار، والقشرة السوداء، والرائحة الكريهة، والحرارة، والحروق، وما إلى ذلك)، والتي هي عبارة عن أعراض للعدوى الخارجية.

أحد التحديات هو أن المخطوطة غالباً ما تشير إلى نفس المكونات باستخدام كلمات وتهجئة مختلفة؛ حيث يشار على سبيل المثال إلى عشبة الشمرة بالكلماتfenel  أو feniculi  أوfeniculum  أو marathri  أو maratri أو maratrum، ويجب أن تكون جميع هذه الكلمات تحت نفس العنوان.

كما يمكن أن تحتوي الأجزاء المختلفة من النبات على مكونات فعَّالة مختلفة، ويجب النظر إلى ذلك بعين الاعتبار، ومن ثم تضمين جذر الشمرة وعصيرها وبذورها بشكل منفصل. كما صحَّح الفريق أيضاً الاختلافات في التهجئة الإملائية بشكل يدوي.

وقد درس الفريق الشبكات التي قاموا بتشكيلها بعد أن وحَّدوا المكونات، ومن ثم أنشؤوا عقدة لكل عنصر، ورسموا الارتباطات فيما بين المكونات إذا ما ظهرت في نفس الوصفة، وكلما ظهرت هذه المكونات مع بعضها البعض، أصبح هذا الارتباط أقوى، ثم استخدم الباحثون بعد تجميع الشبكة خوارزميةً نموذجية للبحث عن التماثلات داخل الشبكة.

وتعدُّ النتائج مثيرة للاهتمام؛ إذ يقول الباحثون: “إن النتائج تُظهر بوضوح وجودَ هيكل هرمي ضمن الوصفات”.

ويتألف كل تماثل في الشبكة من وحدات أصغر، وتحتوي جميعها على نواة مشتركة من جميع المكونات؛ فعلى سبيل المثال تتكون إحدى أنوية المكونات من الألوة فيرا بالإضافة إلى “ساركوكولا نيوتريا”؛ وهو صمغ من واحدة من العديد من الأشجار الفارسية ممزوجٌ مع حليب الثدي.

كما تلعب بعض المكونات أدواراً مهمة في الشبكة، مثل العسل والخل وأزهار الرمان.

وقد كانت الخطوة التالية للفريق هي البحث عن الوصفات الرمزية التي تحتوي على مجموعة من المكونات، ثم بحثوا في الأدبيات الطبية الحديثة عن أي أدلةٍ على إمكانية أن تكون هذه الوصفات ناجحة.

وقد كانت إحدى الوصفات في الأطروحة -على سبيل المثال- غسولاً فموياً يوصف بأنه علاج لـ “البثرات، والقرحات، والتورم والالتهاب، والسرطان، والناسور، والغنغرينا، والخراجات والدمامل”.

ويتكون هذا الغسول من “السماق، ومادة الصفراء، وقشرة الرمان أو لحاء الشجرة، والبالوستيا، والمستكة (مادة راتينجية مستخلصة من شجيرة البطم العدسي الصمغية)، واللبان، والعسل، والخل”، ويتم مزجها غالباً مع النيتريت أو حليب الثدي.

السؤال المهم هو ما إذا كان هناك تأثيرات مناعية أو مضادة للبكتيريا لأي من هذه المكونات، وقد بحثت كونيلي وزملاؤها -من أجل معرفة ذلك- في قاعدة بيانات كوكرين للمراجعات المنهجية؛ وهي مكتبة مشهورة للأبحاث الطبية القائمة على الأدلة.

وقد تبين أن هناك أدلة جيدة على أن بعض هذه المكونات فعَّال بيولوجياً؛ فمن المعروف أن العسل يحتوي على خصائص مضادة للبكتيريا، وتستخدمه دائرة الصحة الوطنية في المملكة المتحدة بانتظام لعلاج الجروح، كما يعد الخل من المطهرات الجيدة، وأيضاً يحتوي حليب الثدي على مجموعة متنوعة من المكونات المضادة للميكروبات، وأخيراً فإن مادة الصفراء تُعرف أيضاً بأنها مبيد قوي للبكتيريا.

ومع ذلك، هناك أدلة ضعيفة على أن الألوة واللبان والمستكة والساركوكولا لها أي تأثيرات علاجية؛ فقد خَلُص البحث في قاعدة بيانات كوكرين حول تأثيرات شفاء الجروح للألوة -مثلاً- إلى أن الدراسات ذات الصلة كانت ذات جودة رديئة بشكل عام؛ وبالتالي فإن الأمر لم يُحسم بعد حول قوة تلك المواد.

ومع ذلك فإن الجمع بين هذه المكونات الخاصة في غسول فموي واحد هو أمر منطقي بالتأكيد؛ فهو يزيد من الاحتمالية لأنه إذا لم يكن أحد العناصر فعَّالاً فقد يكون الآخر كذلك، كما تقول كونيلي وزملاؤها: “إن من الممكن أن تزيد الفعالية ضد أحد الأنواع البكتيرية المستهدفة بسبب مهاجمة العديد من الأهداف الخلوية له في نفس الوقت، أو السماح بالتنشيط الكيميائي لجزيئات أحد المكونات”.

كما انتهوا إلى أن وصفة الغسول الفموي -والوصفات المشابهة- تعكس نهجاً منطقياً في اتخاذ القرارات الطبية.

ويعد هذا العمل مثيراً للاهتمام؛ فهو يعني أن علينا إعادة التفكير في النظرة التقليدية لطب العصور الوسطى، والنظر إليه على أنه أكثر من مجرد شعوذة وخزعبلات، ويقول الباحثون: “إن هذا العمل يوضِّح إمكانية استخدام خوارزميات الشبكات المعقدة في استكشاف مجموعة بيانات طبية تعود إلى العصور الوسطى؛ من أجل الكشف عن الأنماط الكامنة في تركيب المكونات المتعلقة بعلاج الأمراض المُعدية”.

كما يعتقد الباحثون أنه قد يكون هناك الكثير لاكتشافه في مخطوطات العصور الوسطى، بما في ذلك إمكانية وجود مضادات ميكروبية جديدة غير معروفة للعلم الحديث حتى الآن، وتقول كونيلي وزملاؤها: “إن استخدام التقنيات الرقمية في تحويل هذه المخطوطات إلى قواعد بيانات -قابلة للتنقيب الكمي لها- يتطلب نهجاً دقيقاً متعدَّد التخصصات، كما أنه قد يوفر منظوراً جديداً تماماً للعلم والمنطق في العصور الوسطى”.