محبو الخيال العلمي: قصة أول شبكة اجتماعية على الإنترنت

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
عندما تم إنشاء أول شبكة بين أجهزة الكمبيوتر منذ 49 عاماً، والتي تعتبر تمهيداً قاد إلى ظهور شبكة الإنترنت التي نعرفها اليوم، كان الأمر بأكمله يتعلق بالعلوم.

وكانت التصورات الأولية المبنية حول شبكة وكالة مشاريع البحوث المتقدمة أو شبكة “أربانت” (ARPANET)، والتي هي سلف لما يُعرف اليوم بشبكة وكالة مشاريع البحوث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأميركية أو “داربا” (DARPA)، أنها ستكون وسيلة للعلماء الذين يتم تمويلهم عسكرياً من أجل أن يتمكنوا من تشارك سلعة نادرة ومكلفة للغاية حينها، ألا وهي حوسبة الوقت والطاقة. في ذلك الوقت، كان هناك عدد قليل من الجامعات التي تملك أجهزة كمبيوتر، وكانت الطريقة الوحيدة لاستخدام تلك الأجهزة (أو لنقل ملف من جهاز إلى آخر) هي السفر إلى المنشأة التي تمتلك جهاز الكمبيوتر، وقد كان لدى شركة “أي بي إم” على سبيل المثال، طائرات خاصة مهمتها نقل ملفات الكمبيوتر ذهاباً وإياباً. ولكن، وعدت شبكة “أربانت” بإيجاد حل لهذه المشكلة ليس فقط ليتمكن العلماء من مشاركة حوسبة الوقت، بل من أجل توجيه العديد من أجهزة الكمبيوتر لحل مشكلة ما أو الحصول على الكثير من البيانات باستخدام استعلام وحيد وسريع.

في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1969، بدأت الشبكة التجريبية عملها عندما ربط الباحثون حاسوباً في “جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس” (UCLA ) بجهاز كمبيوتر آخر يبعد مئات الكيلومترات عن جامعة “ستانفورد”، (لا يمكن اعتبار الاتصال الأول ناجحاً تماماً: فقد تحطمت الشبكة أثناء كتابة الكلمة الأولى على الإنترنت). لكن خلال أسابيع، تم ضم كمبيوتر جديد إلى الشبكة في مدينة سانتا باربارا في ولاية كاليفورنيا، ثم جهاز آخر في ولاية يوتا. وبحلول العام 1971، تم ربط 15 جهاز كمبيوتر تابع لمختبرات في جامعات مختلفة. وفي العام 1973، أجرى الباحثون أول اتصال دولي من خلال إدراج المصفوفات الزلزالية النرويجية بأجهزة الكمبيوتر التي تتبعت الزلازل والاختبارات النووية.

وبعد أن ثبُت نجاح هذه الفكرة الجريئة في مجال اتصالات الكمبيوتر، أصبحت الجامعات والمختبرات مرتبطة أكثر ببعضها، ولكن بدلاً من الانضمام إلى شبكة “أربانت” بدأ الكثيرون بإنشاء شبكاتهم الخاصة المصغرة، فكانت شبكة الأقمار الاصطناعية الأطلسية على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وشبكة حزم الراديو في منطقة خليج مدينة سان فرانسيسكو، وشبكة “ألوها” (ALOHAnet) في ولاية هاواي (التي كانت متصلة بواسطة أجهزة راديو يمكن إعادة استخدامها، ونُظمت بواسطة جهاز كمبيوتر سُمي “مينهيون” (Menehune) نسبة إلى سكان هاواي القدماء، وهو الاسم الذي ظهر على معالج رسائل المنفذ الخاص بشبكة “أربانت”.

إلا أنّ هذه الشبكات المتعددة والمصغرة كشفت عن مشكلة غير متوقعة، فعوضاً عن إنشاء “شبكة كمبيوتر فضائية”، كما وُصفت في المذكرات الأولية لشبكة “أربانت” التي تم تصورها، أصبحت اتصالات الكمبيوتر معزولة ضمن مجموعة من الحزم الصغيرة، وكان لكل منها مستلزمات البنية التحتية والقواعد الناظمة الخاصة بها، ما جعل من الصعب ربطها ببعضها بعضاً.

ومن حسن حظ الجميع اليوم أننا نتمكن من قراءة هذه المقالة مثلاً على شبكة الإنترنت جهود فينت سيرف في حل هذه المشكلة. فبصفته باحثاً شاباً في مجال علوم الكمبيوتر حديث العهد، أدرك سيرف أنّ مشكلة التوافق هذه سوف تمنع التواصل المحوسب من التطور. لذا، قام وصديقه روبرت خان بتصميم بروتوكول واحد مشترك يمكن أن ينظم نقل البيانات عبر شبكة موسعة جداً تضم “جميع الشبكات” أو عبر ما يسمى حالياً بشبكة “الإنترنت”. يسمح هذا الإطار القابل للتكيف، وهو عبارة عن بروتوكول التحكم بالنقل وبروتوكول الإنترنت (TCP/IP)، لشبكة “أربانت” الأساسية بربط جميع هذه الشبكات المصغرة التي أنشئت في جميع أنحاء العالم، والذي لا يزال يعتبر إلى اليوم بمثابة العمود الفقري للإنترنت.

حتى مع هذا التوسع، فإنّ هذه الوسيلة الجديدة للاتصال بواسطة الكمبيوتر بقيت محدودة بالنسبة إلى الرؤية المتصورة في الأساس، ما ساعد مجموعة متخصصة من العلماء بإجراء البحوث الممولة من الحكومة، وذلك حتى العام 1979.

في خريف ذلك العام، وعندما قام سيرف بتسجيل الدخول على حاسوب العمل الخاص به، وجد رسالة غير مفتوحة مصدرها مختبر الذكاء الاصطناعي في “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (MIT). وقد تم إرسالها عبر الشبكة باستخدام نظام “البريد الإلكتروني” الذي تم تطويره بعد ذلك. ونظراً لأنّ كل جهاز على الشبكة كان يُستخدم من قبل أكثر من شخص واحد، فقد فكر العلماء في “البريد الإلكتروني” أو “الإيميل” حتى يتمكنوا من مشاركة المعلومات مباشرة من شخص إلى آخر وليس فقط بين أجهزة الكمبيوتر. وكما هو الحال مع البريد العادي، أدركوا أنهم بحاجة إلى نظام عناوين من أجل إرسال الرسائل وتلقيها، وهكذا تم إنشاء الرمز @: الذي يفصل معرّف صندوق البريد عن الجهاز المضيف. وقد وفر هذا الرمز من وقت الكتابة ومن ذاكرة الكمبيوتر المحدودة، وهو أول رمز لما كان قد يظنه المرء “اختراقاً”.

ولكن الرسالة المرسلة إلى بريد سيرف الإلكتروني لم تكن من أجل شيء تقني، ولم تكن مرسلة إليه فقط، بل كانت تلك الرسالة التي تحمل موضوع “محبو الخيال العلمي” (“SF-LOVERS”) مُرسلة إلى سيرف وزملائه المنتشرين في أنحاء الولايات المتحدة، وطلبت الجهة المُرسلة من الجميع الرد بقائمة من مؤلفي قصص الخيال العلمي المفضلين لديهم. ونظراً لأن الرسالة قد وصلت إلى الشبكة بالكامل، فإنّ ردود الجميع يمكن رؤيتها والإجابة عنها من قبل الجميع أيضاً، ويمكن للمستخدمين اختيار إرسال ردودهم إلى شخص واحد فقط أو إلى مجموعة فرعية، ما يؤدي إلى إنشاء عدد من المناقشات الأضيق التي يتم في النهاية الاستفادة منها بأكملها.

بعد مرور حوالي 40 عاماً، ما يزال سيرف يتذكّر ذلك على أنها اللحظة التي أدرك خلالها أنّ الإنترنت سيكون أهم من أي تقنية اتصالات سبقتها. ويقول: “كان من الواضح أنّ ما بين أيدينا هي وسيلة للتواصل الاجتماعي”.

كانت سلسلة الرسائل بالفعل حدثاً مدوياً. ويمكن اعتبار ذلك أول شبكة اجتماعية على الإنترنت، ورغم أنّ الأفراد كانوا متصلين عبر شبكة الإنترنت قبل ذلك، لكنها كانت المرة الأولى التي يستخدمونها للتفاعلات الاجتماعية، والأهم من ذلك، أنهم تمكنوا من بناء هوية مجتمعية أكبر من خلال هذه الروابط الشخصية، فبعد قائمة “محبو الخيال العلمي” ظهرت قائمة “يم يم” (YUMYUM) وهي سلسلة بريد إلكتروني أخرى تناولت موضوع جودة المطاعم في منطقة وادي السيليكون الحديثة (لم تكن قد ظهرت بعد فكرة نشر وصفات الأطعمة من خبراء الطهي واحتاج الأمر بضعة عقود لكي يحدث بعد ذلك)، ثم ظهرت قائمة المشروبات المفضلة. هذا التواصل الاجتماعي عزز ظهور المزيد من العلوم مثل (HUMAN-NETS)، وهو مجتمع للباحثين أنشئ من أجل مناقشة العوامل الإنسانية لهذه المجتمعات الأولية على شبكة الإنترنت.

وسرعان ما بدأت المنتديات تُستخدم لمشاركة أمور أخرى مثل “الأخبار”، وهنا أيضاً ظهر بريق العلوم والخيال العلمي، وناقشت هذه المنتديات أموراً مثل الشائعات المثيرة التي رافقت المسلسل التلفزيوني “ستار تريك” (Star Trek) في ستينيات القرن الماضي خلال رحلته ليتم تصويره كفيلم سينمائي.

إلا أنّ ذلك الاستخدام الجديد لشبكة الكمبيوتر قد خلق الكثير من المشاكل الجديدة أيضاً، أحدها هو الخوف من مشاركة المستخدم لمعلومات قد لا يرغب شخص آخر برؤيتها، وأدى ذلك إلى ظهور أول وسائل “التحذير!” عبر الإنترنت، تلك الكلمة التي يضعها المؤلف أعلى رسالته لتحذير القرّاء قبل وصف موت أحد أبطال الفيلم مثلاً.

والأكثر أهمية، هو أنّ الأشخاص المسؤولين عن إعداد الموازنة العسكرية للجيش الأميركي كانوا أقل حماسة بشأن “المحادثات الفارغة” التي كانت تحدث على شبكتهم الجديدة باهظة الثمن. وبحثوا في كيفية إيقافها (وربما كان النقاش الأول حول إجراء رقابة على شبكة الإنترنت)، ولكن قام المختصون بإقناعهم أنّ حركة الرسائل المتزايدة تختبر مدى قدرة البنية التحتية التابعة لشبكة “أربانت” على تحمل الضغط.

بعد ذلك، تزايدت الرسائل المتسلسلة والنقاشات الحرة عبر شبكة الإنترنت، وبدأ البريد الإلكتروني يأخذ حيزاً من ثلثي سعة النطاق المتاح. ولم تعد مهمة شبكة “أربانت” هي مجرد تسهيل استخدام الكمبيوتر عن بعد ونقل الملفات من قاعدة بيانات إلى أخرى، فقد أصبح أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول يستخدمونها لإنشاء مجتمعات تفاعلية، ويؤثرون على ما يعتقده الآخرون وما يعرفونه من خلال جهاز كمبيوتر متصل على الشبكة. وسرعان ما تغيرت أيضاً الطريقة التي يتحدثون بها مع بعضهم.

ربما لم يدرك أحد من المختصين في ذلك الوقت أنهم كانوا يضعون أسس ثقافة الإنترنت. وفي سابقة أخرى، في تمام الساعة 11:44 صباحاً بتوقيت شرق الولايات المتحدة بتاريخ التاسع عشر من سبتمبر/أيلول عام 1982، قام عالم الكمبيوتر سكوت فالمان بتغيير التاريخ عندما كتب خلال حديث حول نكتة أُطلقت عبر البريد الإلكتروني:

أقترح أن تُسلسل الرموز التالية للإشارة إلى نكتة: 🙂

واقرأها بشكل مائل. وربما يكون من السهل الإشارة إلى الأمور التي ليست كذلك بهذه الرموز: 🙁

وهكذا ولدت التعبيرات الانفعالية – إيموتيكون – المتواضعة.

رغم نشوء جميع تلك الشبكات الاجتماعية، إلا أنّ شبكة “أربانت” لم تكن بعد بصورة شبكة الإنترنت التي نعرفها اليوم، بل كانت مملكة تحكمها الحكومة الأميركية ويستخدمها في الغالب أشخاص من حملة شهادات الدكتوراه في عدد قليل من المجالات التقنية (كما يظهر ذلك في التعبير الانفعالي الرسمي للشبكة). حتى أولى المنصات الاجتماعية التي أنشأها علماء الكمبيوتر كانت مجرد إعادة إنشاء رقمية للاتصالات القديمة والمألوفة: مثل الخدمات البريدية، ولوحات الإعلانات، والصحف.

ومع ذلك، كانت الشبكة تنمو بشكل سريع. وبحلول العام 1980، كان بإمكان 70 مؤسسة وحوالي 5,000 مستخدم الوصول إلى شبكة “أربانت”، وبدأ المسؤولون في القوات المسلحة الأميركية يؤمنون أنّ شبكة الكمبيوتر التي كانوا يدفعون تكاليفها قد توسعت إلى أبعد من احتياجاتهم أو مصالحهم. وبعد محاولة فاشلة لبيع شبكة “أربانت” إلى شركة تجارية (إذ كان من الممكن لشركة “أيه تي آند تي” (AT&T) أن تمتلك فعلياً شبكة الإنترنت، لكنها رفضت)، قامت الحكومة بتجزئة النظام إلى قسمين، بحيث سمحت لشبكة “أربانت” بالاستمرار في تجاربها البحثية التي تتسم بالفوضى وأنها سريعة النمو، بينما أنشأت شبكة جديدة “ميل نت” (MILNET) للاستخدام العسكري، وانفصل عالم الحرب عن عالم الإنترنت لبعض الوقت.

قد تبدو قصة تاريخ شبكة “أربانت” الأولى في تجربة التواصل الاجتماعي غريبة بعد مرور أكثر من أربعة عقود من الزمن على انطلاقها، لكنها تعتبر أيضاً مفيدة. اليوم، تسيطر الشبكات الاجتماعية والشركات التي تديرها على شبكة الإنترنت، إذ يضم فيسبوك الآن عدداً من المستخدمين يُعتبر أكبر من عدد سكان أي دولة، وبالنسبة للعديد من المستخدمين في بلدان مثل تايلاند وميانمار، فإنّ موقع الفيسبوك هو الإنترنت فعلياً. هذا التحول، من اتصال بين حاسوبين في جامعتين مختلفتين إلى القليل من الاتصالات التي دعمت مواضيع نقاش مجموعة متخصصة من الباحثين ثم إلى شبكة معلومات شملت العالم وغيرته، يبيّن كيف أنّ التقنيات المبنية من أجل غرض معين غالباً ما يُعاد توجيهها نحو أمر آخر. وهنا تكمن مشكلة أيضاً، لأنّ قصة الإنترنت بدأت أيضاً بالسير بطريق معاكس بطريقة ما.

لقد رأى الأشخاص الذين أنشؤوا قائمة “محبي الخيال العلمي” كيف تحولت مما كانت في الأصل أداة عسكرية إلى مجتمع إلكتروني ممتع ومفيد شيئاً فشيئاً. أما اليوم، فقد تحولت هذه المجتمعات إلى ساحات قتال، والمعلومات التي تتضمنها يتم تسخيرها للفوز في الانتخابات والحروب أيضاً. وتأخذ منصات التواصل الاجتماعي اليوم دور المضيف لمعارك لا تنتهي من أجل توجيه أفكار سامّة من خلال “إبداءات الإعجاب” وأكاذيب لا يمكن صدها، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تقسيم المجتمعات على شبكة الإنترنت وفي العالم الحقيقي. عندما نفكر في الحرب ضد الهجمات السيبرانية اليوم، فإنّ التهديد لا يتمثل في مجرد احتمال اختراق الشبكات وبياناتها، بل أيضاً في احتمال اختراق المعلومات والأشخاص والمجتمعات على هذه الشبكات. مثل هذا النوع من حروب “إبداء الإعجاب” غيرت العالم فعلياً خارج إطار الشبكة، فقد شكلت الانتخابات التي غيرت السياسة الأميركية ومستقبل أوروبا، وأثرت على قرارات في ميدان المعارك في العراق وساعدت في إطلاق سلسلة من عمليات إطلاق النار بين العصابات في شيكاغو والإبادة الجماعية في ميانمار، وقد حدث كل ذلك في نفس المكان الذي نواصل فيه مناقشة أمور مثل أفضل قصص الخيال العلمي أو أفضل المطاعم، وما زلنا نستخدم الوجوه المبتسمة والعبوسة. لقد مثّل النموذج الأول لوسائل التواصل الاجتماعي على شبكة “أربانت”، طلباً موجهاً للأعضاء بإدراج ما يفضلونه من قصص الخيال العلمي، ولكن نتج عن ذلك اليوم غضباً تمثّل بحروب “إبداء الإعجاب”، الأمر الذي قد يكون من أبرز نواتج الخيال العلمي على الإطلاق.