الإخفاقات الغريبة في الصور التي تنشئها الخوارزميات

3 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
لن يعود النمط إبداعياً إذا أصبح بالإمكان إنشاؤه بلا نهاية، فما هي أبرز الإخفاقات في صور الخوارزميات؟

في أواخر شهر آب/أغسطس، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالة غريبة من تأليف فرهد مانجو عن لعبة فيديو أطلقتها شركة “مايكروسوفت” تسمى “محاكي الطيران” (Flight Simulator)، وهي تستخدم مجموعة ثمينة من البيانات التي تستوردها من التطبيق الذكي “أوبن ستريت ماب” (OpenStreetMap) أو (خريطة الطرق المفتوحة)، وتتم تصفية هذه البيانات عن طريق تطبيق “خرائط بينغ” (Bing Maps) التابع لشركة “مايكروسوفت” من أجل إنشاء رسم تمثيلي ثلاثي الأبعاد عن العالم بأسره. وترجمت الخوارزميات البيانات إلى بيئة هائلة، حيث يكون كل منزل وناطحة سحاب وجبل ضمن قاعدة البيانات تفاعلياً، ويمكنك أن تحلق بطائرة افتراضية فوق نسخة افتراضية مطابقة لمنزلك.

يتحدث مانجو عن اللعبة على أنها تجربة مثالية، ويقول إن اللعبة، التي لا تحتاج إلى رخصة طيار، تبين لنا أن حدود مدننا أو دولنا ليست موجودة حقاً، ويقول: “صنعت شركة التكنولوجيا العملاقة شيئاً مذهلاً، فقد أنشأت تمثيلاً افتراضياً للأرض يبدو واقعياً لدرجة تجعل التجريد بكل معانيه يتلاشى”. كما قال إن أجهزة الكمبيوتر قادرة على تقديم صورة عن العالم أكثر واقعية مما يمكن أن نراه في الخارج.

يذكرني كلامه بقصة خيالية قصيرة قديمة ألفها خورخي لويس بورغيس بعنوان “حول الدقة في العلوم” (On Exactitude in Science)، إذ أنشأ فيها راسمو الخرائط الخياليون خرائط استمرّ حجمها بالتزايد حتى وصلت إلى الحدود، أقتبس: “رسمت رابطة راسمي الخرائط خريطة للإمبراطورية بحجم الإمبراطورية نفسها”. أدركت الأجيال اللاحقة أخيراً أن الخريطة العملاقة عديمة الفائدة، فتركتها تتلاشى في الصحراء. وإذا كان للقصة مغزى، فإما أنه لا يمكن لأي خريطة أن تتمتع بالدقة التامة، وإما أن التجريد هو جزء من أهداف الخرائط، وأن شيئاً من التبسيط يمنحها المعنى.

ما هي “محاكي الطيران”؟

لعبة “محاكي الطيران” هي عبارة عن أرض افتراضية كبيرة بحجم الأرض، لكنها ليست خريطة جيدة كما تبدو. وبما أنه من الضروري أن تترجم البيانات بصورة آلية إلى نماذج ثلاثية الأبعاد على نطاق واسع، فقد اكتشف اللاعبون أن اللعبة تعاني من أخطاء كثيرة. فمثلاً، حولت نصب واشنطن إلى مبنى إداري.

كما تحولت مدينة بيرغن في النرويج إلى خليط سريالي من المناظر الطبيعية والبناء، وكأنها رسم تمثيلي وضعه مهندس معماري طليعي. وتتحول ملامح التلال لتصبح ناطحات سحاب قبل أن تتلاشى في خليط من وحدات البكسل:

لا يمكن لأي إنسان أن يضع رسماً تمثيلياً للعالم بأسره، ولا يمكن لأي شخص أن يتحرى كل زاوية من هذا العالم الافتراضي للتأكد من أن كل ما فيه صحيح. ومهما كانت الشفرة البرمجية التي استخدمتها شركة “مايكروسوفت”، فقد فشلت في تطبيق السطح المناسب على الجسم ثلاثي الأبعاد المناسب. في حالة نصب واشنطن، قررت الشفرة البرمجية أن أي مبنى مرتفع ورفيع تحديداً هو برج لمكاتب الشركات العامة. هكذا تعمل الخوارزميات، في حال توفرت عوامل معينة فستطبق عليها حلولاً شاملة قد تكون صحيحة غالباً، لكنها ستكون خاطئة في بعض الأحيان.

يستخدم مانجو اللعبة كوسيلة لنقد مشكلات مثل المعلومات المغلوطة والتطرف في المنصات الخوارزمية، وهذا يشمل “فيسبوك” و”يوتيوب”. وقال في مقالته إن الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعي ليست حقيقية بما يكفي: “يبدو غالباً أن المجتمع يتم تشكيله بواسطة مشاعر تحددها الخوارزميات في غرف الصدى والبرامج الآلية المجهولة والمتصيدين على الإنترنت بدلاً من المشاعر التي تحددها أفكار دقيقة يطرحها أشخاص حقيقيون”.

تحريف العالم الافتراضي

لكن هذا تماماً ما يحدث في لعبة “محاكي الطيران”، حيث تقوم عملية آلية غير خاضعة للمراقبة بتحريف العالم “الافتراضي” من حولنا، ما يؤدي إلى أخطاء واضطرابات غريبة. فمدينة بيرغن ليست كما تصورها البيانات، نسخة عن مدينة هونغ كونغ بعد نهاية العالم ونصفها مدفون تحت الأرض. هذه الأخطاء هي دليل على مشاعر الخوارزمية التي ينتقدها مانجو.

تتطور ناحية جمالية من الصور المرئية التي تنشئها الخوارزمية مثل لعبة “محاكي الطيران”، وهي تذكرني ببرنامج “ديب دريم” (DeepDream) الذي اخترعته شركة “جوجل”، والذي من المفترض أنه يرسم الصورة التي يراها نظام تعلم الآلة، لكنه يحول كل شيء في النهاية إلى صورة خيالية للكلاب، لأن النظام مدرب على تمييز الكلاب.

يتعمد بعض الفنانين تبني هذه الخوارزمية التجميلية واللعب بها، إذ تتيح لك لعبة فيديو تسمى “تاونسكيبر” (Townscaper) تعمير جزر صغيرة بأسلوب العمارة الإسكندنافية التي تمتد وتتكيف تلقائياً كلما أضفت عنصراً جديداً. فتتغير الأبنية تلقائياً، على عكس لعبة “ماينكرافت” (Minecraft) التي يجري اللاعب فيها التغييرات واحداً تلو الآخر، وتضاف جسور ومنحدرات جديدة كي يبقى أسلوب البناء متسقاً في الجزيرة بأكملها، وحتى وإن بدت في نهاية المطاف غريبة أو غير منطقية.

ثمة خدمة مماثلة تسمى “بلَش” (Blush)، تتيح للمستخدم توليد رسوم توضيحية مبتذلة تستخدم ألواناً زاهية وخطوطاً سوداء عريضة لحملة ترويج العلامة التجارية للشركات الناشئة، من دون الحاجة إلى دفع عمولة لرسام أو التعامل مع إنسان. يمكنك أن تبني كثيراً من مدن وادي السيليكون بصورة عشوائية كما تريد، ثم أن تستخدمها للإعلان عن خدمة العيش المشترك الجديدة على صفحة الهبوط.

ليس بالضرورة أن تكون أدوات الأسلوب الخوارزمي هذه سيئة، لكنها غريبة، لأن ما تفعله هو توسيع مجموعة من القواعد أو نموذج بدأ كناحية جمالية مرضية على مساحة أو رقعة ثقافية واسعة جداً. تعادل الصور المرئية الكتابة التي ألفها الذكاء الاصطناعي، قد تبدو جيدة بادئ الأمر، لكنها في الحقيقة بلا معنى ويمكن أن تكون مدمرة إذا استخدمت في السياق الخاطئ. لن يعود النمط إبداعياً إذا أصبح بالإمكان إنشاؤه بلا نهاية. وفي حالة خدمة “بلَش”، فهي تتسبب بفقدان الرسامين البشر لعملهم، وهذا ليس بالأمر الجيد. لا تستخدم هذه الأدوات، بل استأجر رساماً!

يمكننا اعتبار الإخفاقات في صور الخوارزميات على أنها تحف زماننا وعلامات على شكل مستقبل التكنولوجيا المحتمل. لكن التطبيق الآلي للقواعد في الفضاء الرقمي لن يؤدي إطلاقاً إلى واقع أكثر “واقعية” (فيما يتعلق بلعبة “محاكي الطيران”) أو إبداع فني أكثر “أصالة”. كما هو الحال مع المعلومات المغلوطة، علينا أن ننتبه للمكان الذي يتوقف الإنسان فيه عن العمل لتحلّ العمليات الخوارزمية محله.