إدراكنا للعالم الحقيقي: الجانب المُشرق للتعرض للقرصنة

6 دقائق
إدراكنا للعالم الحقيقي: الجانب المُشرق للتعرض للقرصنة
مصدر الصورة التوضيحية: ناتالي ماثيوز-رامو/ سليت مصدر الصورة: صور إيان غود/ آي ستوك/ غيتي إيميدجيز بلس وتويتر.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بعد أن تم توثيقي على “تويتر” (Twitter) مباشرة، بدأت في التفكير حول ما يجب أن أكتبه في تغريدتي الأولى التي تحمل شارة التوثيق الزرقاء. وقد كان هذا أمراً مهماً، لأن التوثيق على تويتر يعني أنني كاتبة حقيقية، ما يجعلها التغريدة الأولى لكاتبة حقيقية.

 بطبيعة الحال، فإن أكبر دلالة على هويتي الكتابية تأتي من تراكم عدة سنوات من المقالات التي ظهر اسمي عليها، أو راتبي نصف الشهري من صحيفة “ذا نيويورك تايمز” (The New York Times)، أو ببساطة كوني أمضي أغلب وقتي يومياً وأنا أعمل في الكتابة. ولكن إلحاح الضغوط الاجتماعية تمكن من إقناعي منذ زمن بأن شارة التوثيق الزرقاء الصغيرة هذه كانت أكثر أهمية من كل هذه الأشياء. ولهذا، فقد كنت بحاجة إلى أن تكون تغريدتي الأولى مثالية، وتجمع بين الذكاء والطرافة والسهولة، ما يعني أنها أقرب إلى حيلة سحرية تتطلب جهداً كبيراً.

اقرأ أيضاً: ما هي التغييرات التي قد تطرأ على منصة تويتر بعد استحواذ إيلون ماسك عليها؟

القرصنة تطال كل الشخصيات حتى المتوفاة منها

وبعد إمضاء دقائق عديدة لا تُعوض من حياتي الفانية في التفكير بهذه المهمة الصعبة، أتاني الحل من حيث لا أدري: فقد تعرضت للقرصنة. وهكذا، كانت تغريدتي الأولى الموثقة عبارة عن خطبة طويلة ومملة ومبهمة من أحد البوتات حول الرموز غير القابلة للاستبدال. وكذلك كانت 3,000 تغريدة أخرى تبعتها. ويبدو أن مسألة السهولة تحققت على الأقل، وإن لم يكن بالشكل الذي تخيلته، فلم أحرك إصبعاً واحداً على الإطلاق.

إذا كان لديك حساب على وسائل التواصل الاجتماعي، فهناك احتمال بأن تتعرض للقرصنة بصورة علنية. ولا أقصد بهذا إصابتك بالذعر، بل دفعك إلى التحسب. فقد رأيت العديد من الأصدقاء والمشاهير يتعرضون للقرصنة على منصات مختلفة. وفي الواقع، فمنذ فترة قريبة، تعرض إيلون ماسك شخصياً للقرصنة على نفس التطبيق الذي عرض المليارات لشرائه مؤخراً. ويبدو أنه لا مأمن من التعرض للقرصنة، حتى في الموت، فقد اخترق القراصنة حساب الممثل غيلبرت غوتفريد بعد ساعات وحسب من نشر نعوته. وعلى الرغم من الطرق العديدة التي يمكن اللجوء إليها للحماية من القرصنة (مثل كلمات المرور المعقدة والمصادقة ثنائية المراحل)، وعلى الرغم من تطبيقي لكلتا الطريقتين، فقد تمكن القراصنة –مهما تكن هويتهم- من اختراق حسابي.

وقد كانت هذه الحادثة التي تعرضت لها بمثابة أفضل سيناريو للقرصنة، فلم يقم القرصان بالدخول إلى الرسائل الفورية، وحتى لو قام بذلك، فلم تتضمن هذه الرسائل أي شيء معيب لكشفه. ولم يتم تسريب أي صور. ولم يصل إلى حسابي المصرفي أو بطاقاتي الائتمانية أو بريدي الإلكتروني. وبوصفي موظفة في نيويورك تايمز، فقد كانت أفضل العقول في مجال الحماية تحت تصرفي، وقد عملوا مع تويتر على استرجاع الحساب في 24 ساعة. وعلى الرغم من أن الموضوع كان يمكن أن يؤدي إلى تدميري، فلم تتجاوز المسألة مجرد إزعاج. ومقارنة بعمليات القرصنة بشكل عام، فلم يكن الوضع سيئاً.

اقرأ أيضاً: تغريدات متتابعة على تويتر تفضح أسرار وادي السيليكون

ما زلنا نحيا في العالم الحقيقي 

ولكنه كان سيئاً على أي حال! فقد كنت أتفرج، وبشكل مباشر، كيف قام القرصان باستبدال صورتي برأس قرش من عالم الرسوم المتحركة (وهو على ما يبدو رمز غير قابل للاستبدال)، وقام بحذف تغريداتي، وبدأ بإطلاق الآلاف من التغريدات الجديدة مستخدماً اسمي، ووضع إشارات للآلاف من الأشخاص على مدى عدة ساعات فيما بدا محاولة لتوجيه النقرات نحو عملية شراء رموز غير قابلة للاستبدال تم طرحها حديثاً. وعندما حاولت أن أشرح هذه التجربة لجدتي البالغة من العمر 91 عاماً، والتي لم تمتلك حاسوباً في حياتها، لجأت إلى التشبيه التالي: إن التعرض للقرصنة يشبه أن يعلق الشخص خارج منزله فيما يشاهد عبر النوافذ لصاً ينهبه. لقد كان تشبيهاً درامياً يعطي انطباعاً مأساوياً. ولكنني ما زلت مقتنعة به. فقد أمضيت عدة سنوات في بناء صورتي الرقمية، هذه الصورة الرقمية على تويتر لشخصية “دوري” المتحررة واللامبالية، وفي ظرف دقائق معدودة، فقدت كل النكات التي أطلقتها وكل الملاحظات التي أبديتها، وكل الروابط التي شاركتها يوماً، وكل الحوارات العامة التي أجريتها مع مدراء البرامج وكتاب المقالات والباحثين الذين أعجبت بهم. فقدت كل هذا حتى يحل محله هراء حول الرموز غير القابلة للاستبدال. أجل، لقد كانت مجرد تغريدات. ولكنها كانت تغريداتي الخاصة بي.

من الناحية المنطقية، أعترف بأن كتاباتي على الإنترنت غير ذات أهمية. ومقارنة مع معظم محترفي المجال الإعلامي (وجميعنا كذلك من الناحية النظرية “في نظر عامة الناس”)، فإن جمهوري من المتابعين ضئيل نسبياً. وحتى بالنسبة لمن يتفاعلون مع حسابي على تويتر، فإن “التفاعل” مع التغريدات هو المكافئ الفكري لعملية تنظيف سريعة باستخدام منديل، تبدأ باحتكاك قريب وتنتهي بنبذ فوري. وأنا أدرك أن العالم المادي الذي أسكن فيه أكثر أهمية من العالم الافتراضي. وفي الساعات التالية لتعرضي للقرصنة، وعندما لم يكن أمامي سوى الانتظار، شاهدت أداء لإحدى الفرق الراقصة المفضلة لدي، ومن ثم شاركت العشاء مع أحد أصدقائي المقربين جداً في مطعم كوري يقدم أطعمة شهية. وعلى ضوء هذه التجربة، كان من المفترض أن تتضاءل أهمية المخاوف المتعلقة بكلمات صغيرة على الشاشة، والتي لا تتجاوز نفسها مجرد سلاسل رمزية من الأصفار والواحدات.

اقرأ أيضاً: ما تداعيات منع المتاجرة بالرموز غير القابلة للاستبدال على مستخدمي المنصات الصينية؟

ولكن في الحقيقة، بالكاد استطعتُ أن أركز سواء على العرض أو الوجبة. واستمريت بالتفكير في كل ما كنت أخسره، والشكوك بما يمكن أن يضيع أيضاً. وشعرت بالقلق من أنه لم يعد بوسع شخص على الإنترنت أن يعرف أنني محبوبة أو ذكية. بطبيعة الحال، فإن القلق بشأن هذه الأمور في أثناء الجلوس قرب صديق حقيقي يراك محبوباً وذكياً في الحياة الواقعية أمر ينم عن الغباء. وكما يفعل الأصدقاء الحقيقيون، طلبت جولتين من المشروبات احتفاء بالمناسبة، ما أدى إلى تهدئة أعصابي بعض الشيء، وساعدني على إدراك المشكلة: فقد أحسست بأن التعرض للقرصنة [الرقمية] مماثل للتعرض للسطو لأنني أضفيت قيمة حقيقية على منتج افتراضي.

إرضاء رقمي لغرورنا

ولكن هذا لم يكن خطئي بالكامل، كما لم يكن خطأ كاملاً في التقديرات. فهناك 330 مليون مستخدم شهري على تويتر. ويستطيع اجتذاب أي شخص، بعض النظر عن الاختصاص. ولكن بالنسبة للكتّاب، فإن الشخصية الافتراضية على الإنترنت تحمل درجة من الأهمية بالنسبة للمهنة. فهي طريقتي في الاطلاع على تأثير الأحداث والأخبار على التوجهات الثقافية، وطريقتي لبناء العلاقات مع المبتكرين، وطريقتي في زيادة حدة تفكيري الخاص. وعلى وجه الخصوص، وبالنسبة لكاتبة مثلي تتعامل مع العديد من أنواع الكتابة –والتي لا تقتصر على الصحافة التجارية في عملي اليومي، بل تمتد أيضاً إلى المقالات والسيناريو، فقد كانت الشخصية الافتراضية طريقتي للتواصل مع الأشخاص من خارج شركتي “سلاك” (Slack). إن تغريداتي أسرع للقراءة مقارنة بالمقالات أو النصوص، وكانت نقرة واحدة على صفحتي على تويتر كافية لتأييد رأيي، والتعبير وإن بتلميح خفيف عن قدراتي الكوميدية. لا يمكن إنكار أهمية تويتر. فقد أدى إلى تخريب الانتخابات حيناً ودفعها حيناً آخر، كما أدى إلى دفع الحياة المهنية أو تدميرها للعديد من الأشخاص. وأتاح لي اللقاء بالعباقرة والأغبياء، والمتحرشين والأصدقاء. ولهذا، فهو مهم بالطبع.

وعلى الرغم من هذا، وعلى الرغم من أنني استمتعت ببناء العلاقات مع غيري من الكتاب والقراء على الإنترنت، فإن الواقع يقول إن هذه العلاقات ليست حقيقية، لأن شخصيتي الحقيقية ليست طرفاً في أي منها. إن شخصيتي الرقمية مجرد ملخص سطحي، وصوت مجهول من دون تجسيد تم تلميعه عبر عمليات التنقيح والتعديل، على حين أن شخصيتي الحقيقية تتكلم بسرعة وبصوت مرتفع مع الكثير من الإيماءات المحتدة، وهو أمر يعرفه أصدقائي الحقيقيون فقط. وعلى حين ترضي الإعجابات غروري، فإنها لا تثير لدي نفس الشعور الرائع الذي تثيره ضحكات الآخرين. وبالطبع، فإن مقترح هذا المقال تم قبوله على أساس الأفكار التي تحتويها، لا على أساس حضوري على وسائل التواصل الاجتماعي. فعندما فقدت حسابي على تويتر، لم أشعر بالحزن على فرصة ضائعة ما. بل حزنت لأنني شعرت أنني فقدت جزءاً من نفسي مع هذا الحساب. “كيف سيعرف أحفادي أنني كنت فصيحة إلى هذه الدرجة؟” غردت مازحة لاحقاً، ولكنني كنت أشعر بقلق حقيقي حول هذه المسألة. فعندما نبني صورتنا على الإنترنت، فنحن نقوم عملياً ببناء تجسيد دائم لنا. فلا شيء يموت على الإنترنت، كما يقال، وفي الواقع، فلم تختف تغريداتي المحذوفة تماماً، بل ما زالت موجودة في سجل “وايباك ماشين” (Wayback Machine).

اقرأ أيضاً: كيف يتحكم الذكاء الاصطناعي فيما تراه على وسائل التواصل الاجتماعي؟

قد نحيا رقميّاً للأبد أما على الواقع فالأمر مختلف

ولكن هذه السلسلة “الأبدية” من الأصفار والواحدات لن تتيح لي العيش إلى الأبد. ولن تجعلني أكثر أهمية. لقد دفعتني حادثة القرصنة هذه إلى مواجهة الواقع حول السبب الذي يدعوني إلى النشر في المقام الأول. فلم يكن الأمر مجرد تسلية، أو تحدياً إبداعياً، أو استراتيجية عمل. بل كان أكثر تفاهة من ذلك بكثير: فبالنسبة لي، كان التغريد محاولة للإحساس بالأهمية، فقد كان كل إعجاب وكل متابعة بمثابة تأكيد إضافي على أهميتي. أنا أدرك بطبيعة الحال أن الصراخ في فضاء الإنترنت لا يزيد من أهميتنا، حتى لو استمر صدى صوتنا يتردد إلى الأبد. فمن الممكن أن نحقق “الخلود”، ونصبح منسيين في نفس الوقت. وعندما غردت قائلة: “كيف سيعرف أحفادي أنني كنت فصيحة إلى هذه الدرجة؟”، كان سؤالي مصوغاً بصورة خاطئة.

لا أرغب بالطبع في أن تتعرضوا إلى القرصنة، ولكن هذه التجربة هزتني من الأعماق، وجعلتني أعيد النظر في كيفية استخدامي للإنترنت، وهو أمر آن أوانه بصراحة. ما زلت أعتقد أن تويتر أداة فعالة بالنسبة للكاتب، وحتى بالنسبة للشخص العادي. ولكنني أحاول أن أتخلى عن هذه القوة حتى أثبت ذاتي. ما زلت أشعر بشيء من الزهو عندما يحوز أحد منشوراتي على بعض الاهتمام، ولكن في الأسابيع التي تلت هذه الحادثة، بدأت أخصص قدراً أقل من الوقت في استخدام هذا التطبيق، وقدراً أقل من الطاقة أيضاً. وحتى لو بقيت بصمتي الرقمية موجودة بعد مرور 100 سنة، فقد أدركت أنها لن تكون مهمة في ذلك الوقت. وهي بالكاد مهمة حالياً. ويبدو أن أحفادي سيضطرون إلى التعامل معي شخصياً حتى يتعرفوا على شخصيتي المرحة، وأنا أيضاً.