الابتعاد الاجتماعي يحصر الحداد على الموتى بالفضاء الافتراضي

5 دقائق
مصدر الصورة: توماس كرونستاينر/ صور جيتي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أبلغت لوري بيرلو زملاءها بالبريد الإلكتروني بوفاة جدتها مؤخراً، وأعلمتهم أنها ترغب في أخذ إجازة لبقية اليوم. في اليوم التالي، جلست أمام حاسوبها وفتحت منصة زوم، تماماً كما تفعل أثناء العمل. ولكن في هذه المرة، كانت تشاهد عملية الدفن. لن يكون هناك أي تقاليد دينية، ولن يغمرها الجيران بالعناق والمأكولات المنزلية. كان حدادها محصوراً ضمن جدران منزلها.

كانت بيرلو في جنوب نيو جيرسي، أما جدتها سيلفيا واينجاست فقد توفيت في بروكلين ودُفنت في لونج آيلاند. لم يكن الذهاب إلى هناك بالسيارة أمراً مستحيلاً، ولكن المجازفات كانت كثيرة للغاية. كان أخصائيو الرعاية الصحية يزورون منزل جدتها بشكل متكرر في أيامها الأخيرة، ولا يعرفون ما إذا كانت مصابة بكوفيد-19 أم لا؛ إذ لم تخضع واينجاست للاختبار. وبسبب الابتعاد الاجتماعي، لم يُسمح بحضور الجنازة شخصياً إلا لعشرة أشخاص، وكانت العائلة كبيرة. وفيما كانت تشاهد البث الحي، شعرت بالغرابة، وشيء من الغضب. لقد شعرت أنها قلَّلت من احترام جدتها -التي تمكنت من الصمود في وجه أعتى الظروف أثناء الحرب العالمية الثانية- عندما شاهدت دفنها على نفس المنصة التي تستخدمها لاجتماعات العمل. لم تشعر براحة النفس بعد هذه الجنازة.

تقول بيرلو: “إن الأمر أشبه بمشاهدة فيلم، غير أنك جزء منه. إن مشاهدة الدفن، ورؤية الحاضرين واقفين بشكل متفرق وهم يرتدون الأقنعة من دون الاقتراب من بعضهم البعض، ومن دون عناق، أمر غريب للغاية”. لم تعرف ماذا يمكن أن تفعل؛ فصنعت كعكة تفاح. وغرَّدت على تويتر أن جدتها كانت تستحق أكثر من ذلك.

لقد أرغم وباء كورونا العالمي الناس على التفكير في الموت، وفي نفس الوقت التوقف عن كل ما كنا نفعله للتعامل مع الحزن وفقد الأحبة. وحل بث مراسم الدفن عبر تطبيق زوم، وعمليات الدفن المؤجلة والوداعات الافتراضية محلَّ العناق وتجمعات التعازي وإمساك الأيدي. أصبح الحِداد على الإنترنت هو الخيار الوحيد. يقول الخبراء إن البث الحي والتواصل الاجتماعي على الإنترنت قد يساعد في حالات الحداد، غير أن كل شخص يحتاج أيضاً إلى شيء مختلف. وعلى غرار كل شيء آخر، فإن الحداد على الموتى أصبح أكثر صعوبة في خضم هذا الواقع الجديد.

عندما يختفي “قطار المأكولات المنزلية”

لم يظهر الحداد على الإنترنت بسبب وباء فيروس كورونا؛ فقد ظهرت من قبل مجموعات على فيسبوك تجمع الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن الصغار، كما أن حسابات منصات التواصل الاجتماعي غالباً ما تتحول إلى ما يشبه النصب التذكارية الافتراضية لأصحابها المتوفين. وضمن مجموعات متقاربة يمضي أفرادها أغلب الوقت على الإنترنت، مثل مجموعات المعجبين ومجموعات الألعاب، يمضي الناس سنوات في تعلم كيفية الحداد على فقد أصدقاء مقربين لم يلتقوا بهم قط.

كما أن البث الحي كان من قبل جزءاً من عملية الحداد؛ فقد كانت هناك أسباب أخرى يمكن أن تمنع البعض من حضور الجنازة، قبل أن يجبر وباء كورونا الجميع على البقاء في المنزل. ووفقاً لبعض الديانات، يجب أن يُدفن المُتوفَّى بعد الوفاة بفترة قصيرة، وحتى من دون هذا الشرط، فإن مشاكل السفر كانت تؤدي في بعض الأحيان إلى منع البعض من حضور جنازات أحبتهم.

تقول سارة تشافيز، مديرة منظمة مختصة بالاستشارات المتعلقة بالتعامل مع الوفيات وتقبلها: “كانت الكثير من المجتمعات غير الموثقة متعايشة مع هذا الواقع لعدة سنوات. وهناك الكثير من القصص المؤلمة حول أولاد لم يتمكنوا من توديع أهاليهم، وأشخاص اضطروا لمشاهدة دفن شريك الحياة عبر سكايب”. كان الحداد الافتراضي أيضاً جزءاً هاماً من أسلوب التعامل مع الوفيات في المناطق الريفية؛ حيث تقل الموارد المتعلقة بالحضور الشخصي، وبالنسبة أيضاً للوفيات من أنواع خاصة، مثل الانتحار وتعاطي المخدرات والقتل ووفيات الصغار.

ولكن وباء كوفيد-19 أرغم جميع من يتعاملون مع الموت على مواجهة احتمال التخلي عن أكثر شيء يحتاجه الشخص في هذه الحالة: اللمسة البشرية، والتواصل، والدعم المجتمعي. ومن المرجح أنهم سيُحرمون من العادات والشعائر التي تجلب الراحة النفسية، والتي تطلق عليها المعالجة النفسية وأخصائية الحزن ميجان ديفاين اسم “قطار المأكولات المنزلية”. لقد أدى الوباء إلى مفارقة واضحة، وهي أن الناس أصبحوا أكثر انتباهاً ووعياً بالموت والحزن، غير أنهم أقل قدرة على مساعدة من يعانون منه.  تقول ديفاين: “لقد تبخر كل الدعم الذي كان متاحاً من قبل”.

هذه هي الراحة التي افتقدت إليها بيرلو عندما توفيت جدتها. تتضمن بعض التقاليد الروحية فترة أسبوع تلي الدفن مباشرة، تجتمع خلالها العائلة المباشرة للحداد على المتوفى، في حين يزورهم الأصدقاء والأقارب لتقديم واجب التعزية. ولكن إجراءات الحجر بسبب كوفيد-19 تعني ببساطة أن كل فرد من العائلة بقي في منزله معزولاً عن الآخرين، كما أن فترة التعزية اختُصرت بسبب مناسبة دينية أخرى. تقول بيرلو: “إن الهدف الأساسي من هذه التقاليد هو الاجتماع مع أفراد العائلة الحزانى لتقديم الدعم. إن الصلاة ممكنة في أي مكان. ولكن الدعم الشخصي هو ما نفتقد إليه”.

“لفتات صغيرة”

يعمل كلاي ديبيل مدير جنازات في دار برادشو كارتر للجنازات في هيوستن، وهو يبذل قصارى جهده للتعامل مع الوضع؛ فمنذ بضعة أسابيع، بدأ يتصل بالعائلات بشكل متكرر لإعلامهم بالقيود الجديدة، حيث إن التجمعات الجنائزية لمئة شخص أصبحت محدودة بخمسين، ثم خمسة وعشرين، ثم عشرة. في نهاية المطاف، أصبحت القيود تعني من الناحية العملية إمكانية حضور أفراد منزل واحد وحسب من الأقارب المباشرين للجنازة. يقول ديبيل إن هذا يدعو للأسى.

في الواقع، بدأت دار الجنازات التي يعمل فيها ديبيل باستخدام خدمة ون روم لبث الجنازات بشكل مباشر منذ حوالي السنة. تقع دار الجنازات قرب مركز تكساس الطبي، وهو مجمع طبي هائل يعالج الكثير من المرضى من خارج الولاية من أمراض شديدة، بل حتى خطيرة على الحياة في بعض الأحيان. يساعد البث الحي أفرادَ العائلة البعيدين عن هيوستن من أجل حضور الجنازات بشكل غير مباشر. أما الآن، فقد أصبح هذا هو الخيار الوحيد المتاح، إلا في حال تأجيل الجنازة حتى رفع القيود، ولهذا يركز على كيفية استخدامه لمساعدة أهالي المتوفين بأفضل شكل ممكن.

أشرف ديبيل مؤخراً على عملية إحراق جثة أحد المتوفين. وبالطبع، لم يكن من الممكن لزوجة المُتوفّى أن تذهب لحضور الحرق بشكل مباشر، ولهذا شاهدته على الإنترنت. أمسك ديبيل بالهاتف لتصوير عملية دفن لبثها بشكل مباشر إلى العائلة. ويقول: “لقد استرقت النظر إلى الهاتف. ورأيتهم يشاهدون. لقد حرصوا على ارتداء ملابس لائقة بالمناسبة. إنها لفتة صغيرة. واللفتات هي جوهر الجنازة”.

رأت تشافيز وديفاين هذه اللفتات تنتشر على الإنترنت في الأسابيع الماضية. في لعبة الفيديو أنيمال كروسينج: نيو هورايزنز، على سبيل المثال، قام أحد اللاعبين بإنشاء مقبرة افتراضية لزيارتها تخليداً لذكرى جده وجدته. تلحظ ديفاين أن من يعانون من الحزم يبحثون عبر الإنترنت عن آخرين يمرون بنفس الظروف، وذلك للتحدث معهم حول الحداد تحت ظل العزل. تقول الباحثتان إن الإنترنت يمكن أن يساعد بوسائل أكثر فعالية من مجرد إنشاء مدفن افتراضي أو بث جنازة.

لن تكون مراسم الجنازات عبر زوم بنفس قيمة وأثر الجنازات الحقيقية. ولكنها يمكن أن تتيح إمكانية الاعتراف بالأثر السلبي للحزن.

تقول تشافيز: “آمل أن التعبير عن الحداد ومشاركته عبر الإنترنت سيسمح لنا بتطبيع التجربة وإثبات أن الحداد تجربة طبيعية بشرية مشتركة، على الرغم من صعوبته”.

إننا جميعاً نتعرض بشكل أو بآخر للحزن في هذا الوقت. وقد يكون الحداد في العزل أقل وحدة مما نعتقد.

تقول ديفاين إن العائلات التي تمر بهذه المرحلة يجب أن تفكر في عادات وشعائر جديدة تناسب هذه المرحلة. ويمكن على سبيل المثال إنشاء وثيقة على جوجل يستطيع الجميع المساهمة فيها بأفكار حول تكريم المتوفى وتخليد ذكراه عند انتهاء إجراءات الابتعاد الاجتماعي. أو يمكن استخدام البث المباشر للفيديو لإعداد وجبة العشاء بشكل مشترك، أو تشارك المشروبات والأنخاب، وتذكر المتوفى والتخطيط لما بعد مرحلة الحجر.

تقول تشافيز: “يمكننا أن نعتمد على الأساليب القديمة، أو يمكن أن نستغل هذا الوقت لتجربة أدوات ومهارات ومنصات تساعدنا على مساعدة الناس الذين يهمنا أمرهم”.

في هذه الأثناء، تأمل لوري بيرلو بأن تتمكن العائلة من تكريم جدتها بالطريقة التي تستحقها ما أن تبدأ الأمور بالعودة إلى طبيعتها. لن يعوض هذا عن الجنازة، ولكنه أفضل من لا شيء.

تذكرت بيرلو شجيرات الورد في الفناء الخلفي لمنزل جدتها. وهي تفكر في إمكانية الذهاب إلى المنزل، وأخذ وردة لزرعها في منزلها.