باحثون بارزون يطالبون بتحقيق جدي في منشأ فيروس كورونا

6 دقائق
التحقيق في منشأ فيروس كورونا
مصدر الصورة: رويترز/ توماس بيتر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قبل عام مضى، كانت الفكرة القائلة باحتمال تسبب حادث في مختبر بتفشي وباء كورونا موضعَ رفض واستنكار الصحف والعلماء والمؤسسات الإخبارية الرائدة في العالم التي اعتبرتها “نظرية مؤامرة“.

لكن أصل الفيروس الذي أودى بحياة الملايين لا يزال مجهولاً، واحتمال ظهوره من المختبر تحول إلى نظرية يصعب تجاهلها.

واليوم، في رسالة منشورة في مجلة سينس، يضع 18 من علماء الأحياء البارزين -بمن فيهم أهم باحث في العالم حول فيروس كورونا- ثقلهم وراء الدعوات المطالبة بإجراء تحقيق جديد في جميع الأصول المحتملة للفيروس، ويطالبون المختبرات والوكالات في الصين بـ “فتح السجلات” أمام تحليل مستقل.

كتب العلماء في رسالتهم: “يجب أن نتعامل بجدية مع كل من فرضيتَي المنشأ الطبيعي والمختبري إلى أن نحصل على بيانات كافية”.

تركز الرسالة -التي أشرف على كتابتها عالم الأحياء الدقيقة بجامعة ستانفورد ديفيد ريلمان وعالم الفيروسات في جامعة واشنطن جيسي بلوم- على دراسة مشتركة حديثة حول أصول فيروس كورونا أجرتها منظمة الصحة العالمية والصين، والتي رجحت أن فيروساً يصيب الخفافيش قد انتقل إلى البشر عن طريق حيوان وسيط، وأن احتمال نشوء الفيروس من حادث مختبر كان مستبعداً للغاية“.

لكن وفقاً لمؤلفي الرسالة الجديدة، فإن تلك النتيجة لم تكن مدعومة بأدلة علمية؛ إذ لم يتم العثور على أي أثر لكيفية انتقال الفيروس لأول مرة إلى البشر، ولم يتلقَّ احتمال وقوع حادث في المختبر إلا نظرة خاطفة. وتم تخصيص بضع صفحات فقط من تقرير منظمة الصحة العالمية وملحقاته حول منشأ فيروس كورونا، رغم كونه مؤلفاً من 313 صفحة لهذا الموضوع.

قال مارك ليبسيتش، عالم الأوبئة الشهير في جامعة هارفارد وأحد الموقعين على الرسالة، إنه لم يفصح عن وجهة نظره حول أصل الفيروس حتى وقت قريب، وفضَّل بدلاً من ذلك التركيز على تحسين تصميم الدراسات الوبائية وتجارب اللقاحات. ويعزو قراره جزئياً إلى كون النقاش حول نظرية المختبر قد أصبح مثيراً للجدل. ويوضح: “بقيت خارج هذا الجدل لأنني كنت مشغولاً بالتعامل مع تبعات الوباء بدلاً من أصله. [لكن] عندما تصدر منظمة الصحة العالمية تقريراً يقدم ادعاءً واهياً حول موضوع مهم… فإن الأمر يستدعي التدخل والإدلاء برأيي علناً”.

وقد دعا العديد ممن وقعوا الرسالة، بمن فيهم ليبسيتش وريلمان، سابقاً إلى مزيد من التدقيق في أبحاث “اكتساب الوظيفة”، التي يتم فيها تعديل الفيروسات وراثياً لجعلها أكثر عدوى أو ضراوة. وتجدر الإشارة هنا إلى تجارب هندسة العوامل الممرضة التي كانت قائمة في معهد ووهان لعلوم الفيروسات، المركز الرائد في الصين لدراسة فيروسات الخفافيش المشابهة لفيروس سارس-كوف-2. يعد البعض أن ظهور كوفيد-19 لأول مرة في نفس المدينة التي يقع فيها المختبر يمثل دليلاً ظرفياً على إمكانية وقوع حادث في المختبر أدى إلى تفشي الوباء.

قدر ليبسيتش سابقاً خطر تفشي جائحة بسبب حادث عرضي ينطوي على تسرب عامل ممرض من مختبر علوم حيوية ذي مستوى أمان عالٍ بمعدل يتراوح بين (1 في 1,000) و(1 في 10,000) سنوياً، وقد حذر من أن انتشار مثل هذه المختبرات في جميع أنحاء العالم يمثل مصدر قلق كبير.

على الرغم من أن العلماء الصينيين قالوا إنه لم يحدث تسرب من هذا النوع في حالة فيروس كورونا، إلا أن مؤلفي الرسالة يقولون إنه لا يمكن إثبات ذلك إلا بإجراء تحقيق أكثر استقلالية. وكتبوا: “يجب إجراء تحقيق دقيق يتسم بالشفافية والموضوعية، وينبغي أن يكون قائماً على البيانات وشاملاً لخبرات واسعة وخاضعاً لرقابة مستقلة وأن تتم إدارته بمسؤولية لتقليل تأثير تضارب المصالح إلى الحدود الدنيا. وينبغي على وكالات الصحة العامة ومختبرات الأبحاث على حد سواء أن تفتح سجلاتها للجمهور. ويجب على المحققين توثيق صحة ومصدر البيانات المستخدمة في إجراء التحليلات واستخلاص النتائج”.

وفي رسالة بالبريد الإلكتروني، قالت كبيرة علماء الأمراض الناشئة في معهد ووهان لعلوم الفيروسات، شي جينجلي، إن الشكوك التي تثيرها الرسالة كانت في غير محلها وستضر بقدرة العالم على الاستجابة للأوبئة. وحول مطالبة المجموعة برؤية سجلات المختبر، قالت شي: “إنه بالتأكيد أمر غير مقبول، من يستطيع تقديم دليل غير موجود أساساً؟”.

وكتبت شي في البريد الإلكتروني: “إنه لأمر محزن حقاً قراءة هذه ’الرسالة’ التي كتبها هؤلاء العلماء البارزون الثمانية عشر”. وأضافت: “تستند فرضية حدوث تسرب من المختبر إلى أمر واحد وهو خبرة المختبر الذي يعمل منذ فترة طويلة على الفيروسات التاجية في الخفافيش وذات الصلة التطورية الوراثية بفيروس سارس-كوف-2. من المؤكد أن هذا النوع من الادعاءات سيضر بسمعة وحماس العلماء الذين يكرسون جهودهم لدراسة فيروسات حيوانية جديدة لها مخاطر انتقال محتملة إلى الإنسان، وتضعف في نهاية المطاف من قدرة البشر على منع الجائحة التالية”.

صورة من داخل معهد ووهان لعلوم الفيروسات
شي جينجلي في مختبر ذو مستوى أمان عالٍ في معهد ووهان لعلوم الفيروسات. تقول عالمة الفيروسات الصينية إن الدعوات التي يوجهها أشخاص أجانب لفحص سجلات مختبره “غير مقبولة”.
مصدر الصورة: صور أسوشييتد برس

لقد تحول النقاش حول فرضية التسرب من المختبر بالفعل إلى نقاش سياسي للغاية؛ ففي الولايات المتحدة، تم تبنيها بشكل واضح من قبل المشرعين الجمهوريين والشخصيات الإعلامية المحافظة، بما في ذلك مضيف قناة فوكس نيوز تاكر كارلسون. يقول ريلمان إن الاستقطاب الناتج حمل تأثيراً مخيفاً على العلماء، الذين كان بعضهم متردداً في التعبير عن قلقهم حيال الموضوع.

ويضيف: “لقد شعرنا بضرورة الإدلاء برأينا حول الأمر لأن ما يحدث لم يكن يجسد حقيقة ما يمثله العلم، ألا وهو جهد عادل ودقيق ومفتوح لإضفاء المزيد من الوضوح بشأن شيء ما. بالنسبة لي، كان جزءاً من الهدف هو إنشاء مساحة آمنة للعلماء الآخرين ليعبروا عن آرائهم الخاصة”.

تقول ميغان بالمر، خبيرة الأمن البيولوجي في جامعة ستانفورد، والتي لم تكن ممن وقعوا على الرسالة: “من الناحية المثالية، هذه دعوة غير مثيرة للجدل نسبياً لتوخي أقصى درجات الوضوح في التأكد من عدة فرضيات ممكنة لا يتوفر حولها إلا القليل من البيانات. عندما تكون السياسة معقدة والمخاطر عالية، فإن تذكيراً من الخبراء البارزين قد يكون هو ما نحتاجه بالضبط لإلزام الآخرين بإلقاء نظرة متأنية”.

وقد أيد هذا الرأي الأدميرال البحري كينيث برنارد، عالم الأوبئة ومحقق الأمراض الذي عمل خبيراً في مجال الدفاع البيولوجي في البيت الأبيض خلال ولايتي كلينتون وجورج دبليو بوش. ويقول إن الرسالة “متوازنة ومكتوبة بعناية وتعكس بالضبط رأي كل عالم وبائيات ذكي أعرفه. ولو طُلب مني، لكنت وقعت عليها بنفسي”.

تردد هذه الرسالة بعض المخاوف التي وردت في دعوة سابقة لإجراء تحقيق جديد نُشرت في صحيفة وول ستريت جورنال من قبل مجموعة من 26 عالماً ومحللاً سياسياً، طالبوا فيها بمزيد من التدقيق في مختبر ووهان وقالوا إن “فريق [منظمة الصحة العالمية] لم يتمتع بالتفويض أو الاستقلال أو الوصول اللازم” لإجراء تحقيق كامل وغير مقيد.

لكن تلك المجموعة كانت تتألف إلى حد كبير من خبراء من خارج المجال، وقد رفض بعض علماء الفيروسات المعروفين الرسالة على أساس أن الموقعين عليها يفتقرون إلى الخبرة اللازمة. وفي حينه، رأى كريستيان أندرسن، خبير المناعة والفيروسات في معهد سكريبس للأبحاث، أن الأدلة المتاحة تشير إلى منشأ طبيعي للفيروس. وقال في تغريدة: “من الصعب العثور على أي شخص يمتلك خبرة في هذا المجال بين الموقعين على تلك الدعوة”.

لكن مع هذه الرسالة الجديدة، ليس من الممكن رفض ما جاء فيها على ذلك الأساس. ومن بين الموقعين عليها أكيكو إيواساكي، اختصاصية المناعة في جامعة يال والتي قادت البحث حول استجابة الجهاز المناعي لسارس-كوف-2، ورالف باريك، عالم الفيروسات بجامعة نورث كارولينا الذي يُنظر إليه باعتباره أبرز خبير في العالم في مجال الفيروسات التاجية، وهو رائد تقنيات التلاعب الجيني بهذه الفيروسات التي أصبحت محوراً رئيسياً لأبحاث معهد ووهان لعلوم الفيروسات.

تكتسب الرسالة الجديدة أيضاً ثقلاً إضافياً من نشرها في مجلة سينس، وهي واحدة من أكثر المجلات شهرة في العالم. يقول ريلمان إن اختيار المجلة كان مهماً. ويوضح: “قال لنا بعض المؤلفين المشاركين: ’سأشارك، لكنني لا أريد أن أكون جزءاً من رسالة مفتوحة إلى العالم، أو مقالة افتتاحية في صحيفة نيويورك تايمز. لا أنظر إلى دوري في الأمر على هذا النحو، فأنا عالم، ولذا أفضِّل أن أخاطب زملائي العلماء في مجلة علمية’”.

يقر ريلمان أنه إذا لم توافق الصين على إجراء تحقيق جديد، فمن غير الواضح ما سيكون عليه أي تحقيق إضافي، أو الدول التي ستشارك فيه. ومع ذلك، يعتقد أن الرسالة الجديدة قد توفر غطاءً مفيداً للديمقراطيين والبيت الأبيض للانضمام إلى دعوات التحقيق حول منشأ فيروس كورونا.

يقول ريلمان: “أعتقد أن هناك طرقاً لتنظيم تحقيق ذي قيمة. لن يكون التحقيق جازماً كما كان يمكن أن يكون لو تم القيام به في الأسبوع الأول من يناير 2020 وكان كل شيء مكشوفاً على الطاولة، لكنني ما زلت أعتقد أن الوقت لم يفت بعد. وحتى إذا لم نحصل على إجابة محددة، فلا يزال الأمر يستحق العناء، لأننا سنحقق تقدماً أبعد مما نحن عليه الآن”.

وسواء كشف تحقيق جديد عن منشأ فيروس كورونا أم لا، يعتقد ليبسيتش أن هناك حاجة إلى مزيد من التدقيق العام في أبحاث المختبرات التي تنطوي على دراسة فيروسات قادرة على الانتشار خارج نطاق السيطرة. ويختم بالقول: “لا يتعلق الأمر فقط باحتمال أن يكون حادث مختبر هو ما تسبب في نشوء هذا الوباء تحديداً. أرغب أن ينصب اهتمامنا على تنظيم التجارب الخطرة؛ لأننا شهدنا ما يمكن أن يفعله الوباء بنا جميعاً، ويجب أن نكون على يقين تام قبل أن نفعل أي شيء يزيد من هذا الاحتمال ولو قليلاً”.