هل تتسبب تكنولوجيا السيارات الحديثة في جعل تجربة القيادة سيئة حقاً؟

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

سيارة تيسلا ذاتية القيادة تصطدم بسيارة شرطي، والسائق يعترف بأنه كان يشاهد فيلماً” (Tesla With Autopilot Hits Cop Car—Driver Admits He Was Watching a Movie). كان عنوان المقال الذي صدر في شهر أغسطس/آب لافتاً للانتباه ولكن من السهل على القراء صرف النظر عنه على اعتبار أنه أمر لن يحدث لهم على الإطلاق. ففي حين أن قليلاً من الناس غير المحظوظين يستطيعون تحويل أي شيء يمسكون به إلى كارثة حقيقية، إلا أن معظمنا نمتلك الحدس السليم الذي يدفعنا لتوخي الحذر وعدم القيام بأي سلوك متهور في أثناء قيادة السيارات الحديثة المزودة بخاصية القيادة الذاتية.

تكنولوجيا السيارات الحديثة

هذا ما نظنه على الأقل، وإذا كنت ستتجاهل ذاك العنوان فعليك أن تتحمل النتائج. إذ إن طريقة تصميم تكنولوجيا السيارات الحديثة تغير بعض أهم مفاهيم المنطق العام الموثوقة والتي نعتمد عليها للحفاظ على سلامتنا، وبسببها لم تعد السلوكيات معقولة وآمنة كما تبدو. أصبح من السهل أن يتصدر أي منا العناوين الرئيسية في الأخبار بسبب سياراتنا التي تأتي بميزات مثل مساعد السائق الآلي الذي يتحكم بالسيارة في حين يؤدي السائق دور المراقب. يذكر دليل استخدام السيارة بوضوح إنك إذا قررت تفعيل هذه الميزات فمن الضروري أن تستمر بالإمساك بالمقود ومراقبة الطريق. تخبرنا دراسة أجريت في “معهد التأمين للسلامة على الطرق السريعة” ( Insurance Institute for Highway Safety) على مدى شهر من الزمن أن السائقين يلتزمون بهذه النصيحة في البداية على الأقل. إذ كانوا ينتبهون بشدة إلى الطريق ويراقبون سياراتهم بحذر ليفهموا ما يمكنهم فعله وما لا يمكنهم فعله. لكن عندما شارف الشهر على الانتهاء ألِف السائقون سياراتهم وبدأ انتباههم يتحول عن مهام القيادة في الطرق السريعة التي تكون حركة المرور فيها انسيابية بسبب قلة عدد الطرق الفرعية المؤدية إليها.

بدا كلّ ذلك معقولاً، وكانت تلك هي بداية المشاكل.

يعرف السائقون أنه من النادر أن تقع مشكلة في الطرق السريع الممتد وغير المعقد، لكن قليلاً منهم يدركون أن هذه الحوادث النادرة تحديداً هي أكثر ما تعاني منه تكنولوجيا السيارات الحديثة. ويمكن أن يكون التصرف عند ظهور أحد المشاة المفاجئ أو انقلاب مقطورة جرار في منتصف الطريق صعباً على نحو غير متوقع حتى بالنسبة لأكثر أنظمة الإبصار الحاسوبي تطوراً. يعي خبراء الذكاء الاصطناعي هذا الأمر، لكن كيف يمكننا أن نوضح لمليار سائق حول العالم أن ما يبدو لهم سهلاً هو في الحقيقة صعب على الكمبيوتر، وما يبدو لهم صعباً هو سهل على الكمبيوتر؟ لقد انقلب منطقنا العام رأساً على عقب، ويجب على من يرغب في استخدام ميزات مساعد السائق الآلي أن يستوعب هذا المفهوم المعكوس وإدخاله في أعماله الروتينية اليومية. كما أن التطور والتكيف المستمر على مدى الحياة لا يصبان في صالحنا هنا. فعندما يواجه الجهاز العصبي المركزي لدى الإنسان طريقاً سريعاً ممتداً محاطاً بالأشجار فهو لا يرى فيه خطراً، بل يعتبره مشهداً جميلاً وشاعرياً. كيف سنغير رد الفعل هذا في مليارات الأدمغة البشرية؟ يبدو أن الجملة المكتوبة في دليل المستخدم المرمي في صندوق القفازات لا تفي بالغرض.

فلنأخذ مثالاً آخر، وهو كاميرات الرؤية الخلفية التي أصبحت اليوم إلزامية في السيارات الحديثة. أجرى “معهد التأمين للسلامة على الطرق السريعة” دراسة أخرى توصلت إلى أن السائقين يستخدمون هذه الكاميرات بالفعل، لكنها كشفت عن أمر مقلق. إذ توقف السائقون عن الالتفات برؤوسهم للنظر إلى الخلف مع توفر كاميرات الرؤية الخلفية، فما الحاجة إلى الالتفات برأسك إلى الخلف ومحاولة رؤية ما يظهر بوضوح على الشاشة أمامك؟ هنا أيضاً تؤدي مفاهيم المنطق العام إلى تشتيتنا. نادراً ما تقع حوادث التصادم عند الرجوع بالسيارة إلى الخلف بسبب اصطدام السيارة بجسم ثابت يمكن رؤيته بسهولة بواسطة كاميرا الرؤية الخلفية، وغالباً ما تكون بسبب طفل يركض إلى جانب السيارة ويصبح فجأة خلفها. يدرك قليل من السائقين أنه عندما نلتفت برؤوسنا إلى الخلف من أجل رؤية ما وراءنا نتمكن من ملاحظة بعض الأشياء حتى وإن لم نكن نقصد البحث عنها تحديداً، لذا فالالتفات بالرأس أمر ضروري لأنه فرصتنا لملاحظة الطفل الذي يركض بعيداً عن مجال رؤية الكاميرا قبل أن يظهر فجأة على الشاشة من دون أن يتيح لنا وقتاً كافياً للتصرف. لكن كيف سنتمكن من توضيح هذا الفارق الدقيق في الإدراك البصري للسائقين وجعلهم يدركون أن كاميرات الرؤية الخلفية ما هي إلا إضافة تكمّل الإجراء التقليدي المتمثل في الالتفات بالرأس إلى الخلف؟ مجدداً، ثمة جملة مكتوبة في الدليل تقول ذلك، لكن عمل السائق البشري مع تكنولوجيا الكاميرا لا يحقق فوائد السلامة التي توقعناها. كما توصلت دراسة أخرى “أجراها معهد التأمين للسلامة على الطرق السريعة” (IIHS) إلى أن حوادث الاصطدام التي تقع عند رجوع السيارات إلى الخلف تراجعت بنسبة متواضعة لا تزيد عن 17%.

التطور والتكيف المستمر

ألا تلاحظ أن قواعد المنطق العام السليم قد تبددت في جميع الطرق؟ خذ مثلاً إشارات المرور الذكية التي تعتمد على مرور مجموعات من السيارات والتي تم تطويرها للمساعدة في تخفيف مشكلة التكدس المروري المتنامية. يعرف مهندسو المرور أن حفاظ السائقين على مواقعهم ضمن مجموعة السيارات المحيطة بهم ضروري من أجل استمرار حركة المرور بالتدفق، وإذا كنت عازماً على فعل ذلك فستحدد إشارات المرور الذكية موقعك وتنتظر تجاوزك الإشارة مع مجموعة السيارات بالكامل. لا ضرورة لزيادة سرعتك كي تتجاوز الإشارة الخضراء قبل أن تصبح حمراء لأنك إذا التزمت الهدوء فالإشارة نفسها ستسعى إلى السماح لك بتجاوزها. كل ما عليك فعله هو أن تقاوم أي رغبة في زيادة سرعتك لأنها ستخرب كل شيء. لكن ما الذي سيمنع أدمغتنا الساذجة من النظر إلى الساعة وزيادة السرعة ومحاولة انتزاع الهزيمة من بين فكي النصر؟

لطالما كانت التعليمات والتحذيرات هي وسيلتنا الأولى لمكافحة سوء الاستخدام. لكن علماء النفس يعلمون أننا نحن البشر إذا استلمنا شيئاً جديداً فلن نكلف أنفسنا عناء قراءة التعليمات، بل نحب البدء بالاستخدام على الفور ونتخطى التعليمات ونتبع ما نعرفه بالفعل، أي المنطق العام. بالنسبة لمعظم الابتكارات الموروثة، كان فهمنا اليومي لطريقة سير الأمور مفيداً جداً، لكن اليوم يمكن أن يودي بنا فهمنا هذا إلى التهلكة.

ناقشت مع زملائي ضرورة تدريب السائقين على قيادة السيارات الحديثة لأنها مختلفة بما يكفي لإلزامهم بحضور دروس مختصرة لتعلم قيادتها للمرة الأولى. لكن هل سيجدي هذا النوع من التدريب نفعاً؟ نحن البشر لدينا نزعة قوية لمقاومة الأفكار التي تتعارض مع مفاهيمنا المنطقية الفطرية. ومهما بلغ عدد التجارب التي تثبت أننا لا نجيد فعل عدة مهام في نفس الوقت أو ملاحظة الأشياء غير المعتادة التي تظهر فجأة، فإن الغالبية العظمى من السائقين تصرف النظر عن العلم وتستمر بزيادة أعداد حوادث الاصطدام الكبيرة التي يسببها تشتت الانتباه في أثناء القيادة.

يجب أن يضع مصممو السيارات نصب أعينهم المفاهيم اليومية التي ترافق السائقين خلف المقود. يبين العلم أنه من الممكن ألا ينتبه السائق إلى شاحنة متوقفة في منتصف الطريق إذا كان يشاهد فيلماً وهو جالس خلف المقود، في حين أن المنطق العام لدى السائقين يقول العكس. يجب أن يبدأ التصميم من هذا التضارب، فإما أن يتجاهله وإما أن يساعد في تصحيحه.

وإذا لم يكن بإمكاننا إقناع السائقين بضرورة الالتفات برؤوسهم إلى الوراء قبل الرجوع بسياراتهم إلى الخلف، ربما كان بالإمكان تغيير مكان شاشة عرض الرؤية الخلفية ووضعها وراء السائق كي يكون مجبراً على الالتفات إلى الخلف، (كي تتمكن من رؤية ما يحدث في الزاوية البعيدة عن مجال الرؤية يجب عليك النظر باتجاهها). وإذا كان السائقون يضغطون على دواسة الوقود ليزيدوا السرعة من دون تفكير، فلربما كان بإمكاننا استخدام صوت منبه ينطلق في السيارة عند تأكيد أنها ستعبر تقاطعاً تتحكم فيه إشارة مرور تعتمد على مرور مجموعات من السيارات. من الممكن أن يعتاد السائقون تدريجياً الحفاظ على هدوئهم والسماح للنظام بالعمل. ولدينا بالفعل ميزات لتنبيه السائق ومعاقبته إذا أبعد نظره عن الطريق في أثناء عمل نظام مساعد السائق الآلي، لكن ربما كان بالإمكان إعادة تصميم مهمة القيادة شبه الآلية على نحو يجعل تجربة السائق تتضمن نشاطاً مشتركاً وفاعلاً بنسبة أكبر.

هل تتسبب تكنولوجيا السيارات الحديثة في جعل تجربة القيادة سيئة حقاً؟ أجل، لكن ليس بالضرورة أن تكون كذلك. ليست المشكلة في التكنولوجيا نفسها، بل في طرق تصميمنا واستخدامنا لها. ويجب أن نتوقف عن تحميل السيارات والسائقين اللوم على مشكلة لم نفكر فيها بتعمق كاف حتى الآن. تعدنا التكنولوجيا بتحسينات ضرورية على قيادة البشر للسيارات بوضعها الحالي الخطير والمزدحم. لكن من الضروري أن يلتقي البشر وأجهزة الكمبيوتر في منتصف الطريق. ويجب علينا تصميم تكنولوجيا أكثر سهولة، وأن نبدأ بالتحقق من بعض ما نتمسك به من معتقدات ومفاهيم، فمع تقدم التكنولوجيا تصبح التغييرات أعمق.

مجلة “فيوتشر تنس” هي شراكة بين مجلة “سليت” (Slate) ومركز التفكير “نيو أميركا” (New America) وجامعة أريزونا ستيت، وهي تتمعن في القضايا المتعلقة بالتكنولوجيات الناشئة والسياسات العامة والمجتمع.