ما الذي يريد “فيسبوك” أن يصرف انتباهك عنه من خلال تحويل تركيزه المزعوم نحو الخصوصية؟

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يود مارك زوكربيرغ إخباركم أنه أخيراً سوف يكون التطفل على خصوصية مستخدمي فيسبوك من الماضي، ففي بيان مكوّن من 2,237 كلمة نُشر على موقع “فيسبوك” في السادس من مارس/ آذار الجاري، كتب زوكربيرغ أن شركته ستحوّل تركيزها لتكون “منصة المراسلة والتواصل الاجتماعي التي تركز على الخصوصية” وستوجه اهتماماً أكبر لأن تصبح “شبيهة بغرفة المعيشة الرقمية” أكثر من “شبهها بالتجمّع الرقمي”.

يأتي هذا الخبر بعد مرور شهر تقريباً على التسريب الأول أن شركة “فيسبوك” كانت في المراحل الأولى من عملية دمج خدمات المراسلة في منصاتها المختلفة، وأن “فيسبوك” يلائم كلاً من “إنستغرام” و”واتساب”، لإنشاء نظام مراسلة قابل للتشغيل المشترك ومشفّر بحلول نهاية عام 2019 أو أوائل عام 2020. إن المنطق الذي تستند عليه هذه الخطوة، كما يُصيغه زوكربيرغ في بيانه، هو أنه “ينبغي أن يكون المستخدمون قادرين على استخدام أي من تطبيقاتنا للوصول إلى أصدقائهم، وقادرين على التواصل عبر الشبكات بسهولة وأمان”، حيث إنّ “الكثير من المستخدمين يفضلون علاقة المودة التي تسود التواصل مع شخص واحد أو مع القليل فقط من الأصدقاء”. يقول زوكربيرغ إن خصوصية مستخدمي فيسبوك ستكون ذات أهمية قصوى في “غرفة المعيشة الرقمية” تلك، لدرجة أنه ذكر كلمة “الخصوصية” (ومشتقاتها) 50 مرة في هذا البيان الأخير.

اقرأ أيضاً: ما الذي غاب في دعوة زوكربيرغ لتنظيم وسائل التواصل الاجتماعي؟.

خصوصية مستخدمي فيسبوك

في الظاهر يبدو أن بعض خطط زوكربيرغ إيجابية، إذ يمكن أن توفر الرسائل المؤقتة، والمستخدمة بالفعل على “منصة إنستغرام”، للمستخدمين المزيد من الثقة لمشاركة الصور والفيديوهات. كما يساعد التشفير، المستخدَم بالفعل لـ “تطبيق واتساب”، على ضمان أن الشخصين الوحيدين القادرين على قراءة الرسالة هما المرسل والمستقبل. قد يبدو في الواقع أن مجرد منح الخصوصية هي بداية جيدة بالنسبة إلى “فيسبوك”، الذي يحمل سجلاً مشكوكاً فيه في أحسن الأحوال فيما يتعلق بحماية بياناتنا.

ومع ذلك، لدي شعور بالقلق، إذ إنّ بيان زوكربيرغ ليس مجرد وسيلة لجذب الاهتمام إلى بعض ميزات الموقع الجديدة، بل إنه تضليل شبيه بتلك المُلهيات التي يستخدمها السحرة. وعندما يتعلق الأمر بالخصوصية، فقد واجهت شركة “فيسبوك” المشكلات وانحرفت عن المسار الصحيح وقدمت الاعتذارات وفشلت بالوفاء بوعودها الخاصة بحماية الخصوصية الحقيقية لأكثر من عقد. ويريد الرئيس التنفيذي للشركة اليوم أن يصرف انتباهنا عن ذلك السجل الحافل من خلال بعض التغييرات التي وُظّفت في مكان جيد، وبالتالي نَغفل عن تراخيه الخطير في مكان آخر. وحتى لو وثقنا بكلامه، وهو أنّ “فيسبوك” السخي لم يكسب من المستخدم بكل تأكيد، بيد أن بيان زوكربيرغ يُظهر أنه يسيء فهم معنى “الخصوصية” أساساً. وإليك ما يثير المزيد من السخرية، إذ يبدو أن البيان يستخدم تعريفاً ضيقاً لمفهوم الخصوصية ليصرف انتباهنا عن الطرق التي من المرجح أن يواصل من خلالها “فيسبوك” توسيع اقتحامه لحياتنا الرقمية الخاصة لغاية تحقيق الأرباح.

يبدو من خلال كتابات زوكربيرغ، أنه عندما يفكر في خصوصية مستخدمي فيسبوك فهو يفكر في التشفير، إنه يتحدث عن مستخدمين “يتفاعلون بخصوصية” مع “تحوّل إلى خدمات خاصة مشفرة”، حيث ينبغي أن تكون “مراسلات المستخدمين الخاصة آمنة”. لكن الخصوصية تختلف عن التشفير، إذ يتمحور التشفير حول جعل البيانات يستحيل قراءتها وفهمها من قبل أي طرف خارجي. أما الخصوصية فهي مفهوم أشمل بكثير، حيث لا تتناول فقط تدفق المعلومات بين الأفراد والجماعات، بل تشمل أيضاً الاستقلالية الشخصية والفكرية والعاطفية والثقة اللازمة للتفاعل الاجتماعي. في الواقع العملي، تتعلق الخصوصية بتقييد جمع البيانات، وفرض قيود على الأطراف التي يمكنها الوصول إلى بيانات المستخدم ومعالجتها، والحد أو منع البيانات من التدفق إلى أطراف ثالثة.

اقرأ أيضاً: ما الذي يميز الرؤساء التنفيذيين الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي؟.

لم يذكر زوكربيرغ أي من هذه الأمور في بيانه، فعندما يتحدث عن تشفير بيانات مستخدمي فيسبوك التي يرسلها المستخدمون لمنع “أي طرف، حتى “فيسبوك” نفسه، من رؤية ما يشاركه المستخدمون على خدماتنا”، فإنه يتجاهل الإشارة إلى أن “فيسبوك” سيبقى قادراً على جمع البيانات الوصفية (وهي مجموعة من البيانات تساعدك على استخدام بيانات أخرى) من هذه الرسائل، مثل الشخص الذي يُراسله المستخدم ومتى راسله. وعندما يتحدث عن قابلية التشغيل المشترك، فإنه يتغاضى عما إذا كانت عملية الدمج قد تتطلب من المستخدمين التخلي عن سرية هويتهم التي قد تكون لديهم على “تطبيق واتساب” للتماشي مع متطلبات الاسم الحقيقي على “فيسبوك”. وعندما يتحدث عن “غرفة معيشة رقمية” جديدة، فإنه يستبعد بكل بساطة المعلنين الذين سيتم دعوتهم إلى هذه المساحات أيضاً.

وجميع الطرق الجديدة لارتباطات المنصة سوف تسمح باستخدام معلوماتنا، أي بيانات الملف الشخصي، ونشاط تبادل الرسائل، والنقرات وبقاء المؤشر على مكان ما في الموقع، والتفاعلات، وتحديد موقعك من خلال “جي بي إس”، وتاريخ التصفح الخارجي، واستخدام التطبيق، لمساعدة “فيسبوك” على استهداف الإعلانات بطرق أكثر اقتحاماً لحياتنا.

علاوة على ذلك، وعلى الرغم من التصريح عن تحويل التركيز نحو خصوصية مستخدمي فيسبوك ، لا يوجد مؤشر، إلى جانب العمل على تشفير أنظمة المراسلة المدمجة الخاصة به، على أن موقع “فيسبوك” الجديد سيبدو مختلفاً عن النسخة القديمة عندما يتعلق الأمر بهذه الأنواع من ممارسات الخصوصية الاقتحامية. لا يزال بوسعنا أن نتوقع منه مراقبتنا أينما ذهبنا، حتى ونحن نتصفح الإنترنت خارج النظام البيئي لـ موقع “فيسبوك”. إذ قال زوكربيرغ في مقابلة مع مجلة “وايرد” (Wired) إنّ المشاركة العامة المنسقة (التي تقتل الديمقراطية) في آخر أخبار الموقع لن تتغير. سوف يستمر الموقع في تسليع بيانات المستخدم لتحقيق إيرادات تُقدر بمليارات الدولارات من خلال بيع الإعلانات على “فيسبوك” و”إنستغرام” وقريباً عبر “واتساب“.

اقرأ أيضاً: لماذا لا يمكن لحساب لينكد إن أن يغنيك عن السيرة الذاتية في الوقت الراهن؟.

لم تكن هذه المسائل الأهم فيما يتعلق بموضوع انتهاك الخصوصية مدرجة في رؤية زوكربيرغ. واستناداً إلى المقابلات والتحقيقات التي أجريتها مع المهندسين التقنيين الحاليين والسابقين كجزء من بحثي، وجدت أنّ الكثير منهم يظهر أنهم يخطئون في تعريفهم للخصوصية والأمان؛ إنهم يعتبرون الخصوصية أقل أهمية من التشفير أو الأمن السيبراني، أو الحماية من الوصول غير المصرح به إلى بيانات المستخدم، لأن هذا ما تعلموه على المقاعد الدراسية وهذا ما تم توظيفهم لكي يفعلوه. يُقدم هذا مفهوماً معيناً، حيث إنّ مسائل الأمان تسمح بإيجاد حلول مناسبة على نحو فريد لمجموعة مهارات المهندس، أي أنّ الأمان شيء قابل للتشفير.

لكن الخصوصية تنطوي على قضايا أكبر، فمثلاً، ما هي بيانات المستخدم التي تُجمع في المقام الأول، وكيف “ينبغي” أو “يمكن” استخدامها؟ ولهذا السبب، يتطلب إنشاء أنظمة “تركز على الخصوصية” بصورة مجدية من شركات التكنولوجيا أن تتخذ خيارات منذ بداية عملية التصميم. ومع ذلك، نظراً لأنّ المهندسين بمفردهم غالباً ما يكلّفون بإجراء تصحيحات للخصوصية، فينتهي الأمر بنا بالحصول على تصحيحات تركز على التقنية بدلاً من تغيير شامل.

تأتي رؤية زوكربيرغ المحدودة للخصوصية على الأغلب، في جزء منها، من هذه النظرة الهندسية العالمية. ولكن، بالنظر إلى تاريخ “فيسبوك” المتعلق بالنمو بأي ثمن، أعتقد أن زوكربيرغ يعلم أيضاً أن التعريف المحدود للخصوصية الذي يتقدم به؛ يوفر للشركة تمويهاً مناسباً لما يُعتبر في الأساس حركة تجارية رابحة. إن “فيسبوك”، بعد كل شيء، يستنزف المستخدمين، وخدمات المراسلة مثل “واتساب” هي الشبكات الاجتماعية الأسرع نمواً، وهناك بعض الشكوك في أن شركة “فيسبوك” تتطلع إلى استخدام دمج تطبيقات المراسلة الخاصة بها للسيطرة على المنافسين عالمياً في هذا المجال مثل “وي تشات”، و“آي مسيدج” و“سيغنال” و“سكايب” وحتى “فينمو”.

ثم هناك الجانب الآخر للتصريح علناً عن نية الشركة في تحويل تركيزها إلى “شبكة اجتماعية تركز على الخصوصية” الذي قد يفيد صافي مبيعاتها، إذ قد يكون بمثابة وسيلة فعالة لاسترضاء المستخدمين الذين أُرهقوا من الفضيحة المتعلقة ببعض الأدلة بأن زوكربيرغ يتخذ فعلاً إجراءات نيابة عنهم. تُعتبر المراسلة من أحد أكثر الأجزاء وضوحاً في التجربة اليومية لمعظم المستخدمين عبر الإنترنت، إذ يرسل معظمنا بانتظام الرسائل النصية ويشارك الصور ويشارك أيضاً في دردشات جماعية. لدي شخصياً ثلاث مجموعات تعمل الآن في الوقت نفسه، وهي مجموعة الزملاء المهنيين، ومجموعة العائلة، ومجموعة الأصدقاء. نحن نقدر هذه التكنولوجيا ونفهمها من منظور متعلق بنظرية الظواهر أو منظور قائم على التجربة الفعلية. فعندما يتغير أمر ما حول الطريقة التي نرسل بها الرسائل، مثل الحصول على خيارات جديدة لإرسال رسائل مؤقتة أو الحصول على إشعار بأنّ رسائلنا النصية وصورنا مشفرة الآن، فمن المحتمل أن نراها ونلاحظها.

لكن العديد من الطرق التي من المرجح أن يستمر “فيسبوك” في اتباعها، أو حتى توسيعها، ستبقى تغزو خصوصيتنا بعيداً عن الأنظار. إذ لن يلاحظ معظمنا في حال غيّر “فيسبوك” نهج جمع البيانات الوصفية، أو قيّد وصول الأطراف الثالثة إلى بياناتنا، أو قيّد المعلنين من استهدافنا استناداً إلى تصورات تتعلق بالعرق أو الأصل الإثني أو الميل العاطفي. لن نرى ما إذا كان “فيسبوك” توقف عن استخدام صور “فيسبوك” و”إنستغرام” لـتغذية تقنية التعرف على الوجوه الخاصة به والمستندة على الذكاء الاصطناعي. ولن يتمكن الكثير منا من اكتشاف الطرق التي من خلالها قد يؤدي هذا الدمج والتوسع في خدمات المراسلة هذه إلى تسهيل جمع أنواع جديدة من البيانات التي تتعلق بنا وتجعل من الصعب التخلي عن الشركة أو الانفصال عنها عندما تتكشّف الفضيحة المحتومة.

هذا لا يعني أن إضافة خاصية التشفير فكرة سيئة، بل إنها في الحقيقة بداية رائعة، لكن ينطوي ذلك الأمر على خطر صرف انتباهنا عن حقيقتين مهمتين، الأولى هي أننا نحتاج إلى الكثير من الإجراءات لمعالجة موضوع الخصوصية عبر هذه المنصات، والثانية هي أنه لم يذكر تحوّل زوكربيرغ المزعوم نحو الخصوصية أياً من تلك الإجراءات.

ربما هذه هي بداية مرحلة جديدة بالنسبة إلى الشركة، وربما سيُنظر إلى حماية خصوصية مستخدمي فيسبوك على أنها ميزة تنافسية في السوق، وقد يصبح “فيسبوك” رائداً في هذا السوق من خلال تحدي نموذج الإعلان السلوكي، والحد من وجود بصمته الخاصة بما يتعلق بالمراقبة، ووضع إعدادات الموقع الافتراضية على “الخاص”، وإزالة قسم آخر الأخبار، ومسح بيانات المستخدم القديمة، وأكثر من ذلك. لكن مقالة زوكربيرغ تجعلني أعتقد في الوقت الحالي أننا نشهد المزيد من الأسلوب نفسه الذي يتبعه “فيسبوك”، وهو تغييرات محدودة تركز على التقنية والتي تهدف إلى صرف انتباهنا عن نهج الإهمال وعدم الجدية فيما يتعلق بحماية خصوصية المستخدم.

اقرأ أيضاً: ما مدى الفائدة التي تحققها شبكات التواصل الاجتماعي لشركتك؟.