ديزيرت كنترول: بريقُ أملٍ لمكافحة التصحّر في الوطن العربي وتوفير مصادر المياه

4 دقائق
مصدر الصورة: الموقع الرسمي لشركة ديزيرت كونترول
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يعتبر التصحّر إحدى أخطر الكوارث البيئية المُحْدِّقَة بالإنسان في القرن الواحد والعشرين: فمع ارتفاع درجات الحرارة عالمياً بسبب الاحتباس الحراريّ وترافقه مع السلوكيات السلبية زراعياً وبيئياً، أصبحت مساحات شاسعةٌ من الأراضي الزراعية مُهدَّدة بالتلاشي، وقد يتلاشى معها غذاء مئات الملايين من الناس. ويزدادُ هذا الخطرُ بصورة جسيمةٍ بالنسبة للبلدان التي تعاني سلفاً من قلَّة الأمطار والجفاف، مثل بلدان العالم العربي، التي تُغطّي 90% من مساحتها صحارى جرداء وسهول جافَّة، وأما المساحات الضئيلة الباقية فإنَّها عرضةٌ لزَحْف الصحراء المستمرّ. لهذا السَّبب فإنَّ الحلول والابتكارات التقنية الحديثة قد يكونُ لها دورٌ جوهريّ في حماية مستقبل المنطقة وسُكَّانها زراعياً وغذائياً. وقد طوَّرت شركة «ديزيرت كنترول» (Desert Control) الناشئة حلاً من هذا النوع، وهو “الطين النانويّ” الذي بإمكانه أن يُحوِّل تربة الصحراء إلى مزارع خصبة في ساعات معدودة.

اختراع الطين النانوي

“لقد تعلَّمتُ قليلاً من كُلّ شيء أثناء عملي كمهندسٍ في بحر الشمال”، يقول كريستيان أوليسين -وهو مؤسّس الشركة- في لقاء مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو، “كنتُ أجني دخلاً جيداً من عملي آنذاك، لكن كانت لديَّ اهتمامات مختلفة”. جاء كريستيان في أحد الأيام بزيارة إلى مصر للعمل، ولفتَ انتباهه أنه رأى المزارعين المصريِّين يخلطون الطين بالتربة الرملية على الشواطئ، التي لا تصلحُ للزراعة بظروفٍ عادية، ليصنعوا منها مزيجاً خصباً بإمكان محاصيلهم أن تنمو فيه. وجاءتهُ -وقتها- فكرة اختراعه المبتكر، إلا أنَّهُ احتاج سنواتٍ كثيرة حتى ينجحَ في تطويرها وتطبيقها.

“انخفضت كمية الماء الضرورية لريِّ المزروعات بنسبةٍ تتراوحُ من 65-70% على مدار العام”.

– كريستيان أوليسين، مؤسّس شركة ديزيرت كونترول

أثبتَ كريستيان، بعد ثماني سنوات من الأبحاث والمحاولات، أن من الممكن توظيف مادَّة بسيطة مثل الطين لتغيير التربة تماماً. يُسمَّى الاختراع الذي توصَّل إليه “الطين النانويّ” (Nano clay)، وهو ليس إلا طيناً عادياً يُمرَّرُ في آلاتٍ خاصَّة لتحطيمه إلى جزيئاتٍ ضئيلةٍ جداً لا يتعدَّى قطر الواحد منها نصف نانومتر، أي ما يعادلُ جزءاً واحداً في المليارَيْن من المتر. بعد صناعة الطين النانويّ، يخلطهُ كريسيتيان بالماء ويضخّه في أنابيب الريِّ ليمتزج بالتربة. وعندما يمتزجُ التراب الناعم (غير الصالح للزراعة) بهذا الطّين تكتسبُ لزوجة وقُدرةً على امتصاص كميَّات هائلة من الماء وحفظها بدلاً من تركها تتسرَّب إلى باطن الأرض، مثلما يحدثُ عادةً في الأراضي الجافَّة.

 

اتّفق كريستيان مع فريق من الباحثين في مصر لإجراء التجارب العمليَّة الأولى لاختراعه، وذلك في مجموعة من المساحات الزراعية بمحافظة المنيا في الصَّعيد، والتي تتميَّزُ بمناخٍ حارّ صيفاً، وقد اختيرت للتجربة مزارعُ تكثرُ فيها التربة الرملية المشبعة بالمعادن، والتي تصعبُ الزراعة فيها.

“انخفضت كمية الماء الضرورية لريِّ المزروعات بنسبةٍ تتراوحُ من 65-70% على مدار العام”، يقول كريستيان، الذي أصابهُ الذهول من فاعلية الاختراع: فقد أدركَ وقتها أنه توصَّل لابتكارٍ ثمين جداً. عادَ كريستيان إلى بلده (في النرويج) ليعرضَ على بعض المزارعين تجربة اختراعه مجاناً، وسرعان ما تكاثرت الطلبات عليه.

مستقبلٌ جديدةٌ للزّراعة

أثبت “الطين النانويّ” أنَّ استخدامه عمليٌّ جداً في المزارع لعدم حاجته لتغيير البنية التحتية. “لا يحتاجُ تطبيق هذه التقنية إلى حفر الأرض ولا إلى تقليب التربة”، يقول كريستيان، “لأنها تستخدم أنظمة الريّ الموجودة سلفاً، ممَّا يوفّر الكثير من المال على المزارعين، ويسمحُ بوصول الطين النانويّ إلى كافة أرجاء الأرض بسهولة، ومن هناك يتفاعلُ الطين بسرعة شديدةٍ مع التربة بطريقةٍ تُغيِّرُ من قوامها ونوعها”. إذ يمكنُ للمضخّات أن تعالج أيَّ أرضٍ زراعية في سبع ساعاتٍ فحسب، حيث يتحوَّل بعدها التراب الرملي السيّئ إلى تربة زراعية خصبة. وتدومُ آثار هذه العملية ما بين 4-5 سنوات، ومن ثمَّ تَجِبُ معالجة التربة مرة أخرى.

“بعد نجاح تجربتنا الأولى”، يقول كريسيتيان، “حاولتُ أن أُقدِّر المدة التي قد نحتاجها -مع التمويل والإعداد الكافي، إن وُجِد- لمعالجة تربة جمهورية مصر بكاملها وتحويلها إلى أرضٍ خصبة، وقد وجدتُ أن الأمر -برمَّته- يحتاجُ إلى خمس سنوات تقريباً، وذلك لتغطية مساحة تزيدُ بقليل عن مليون كيلومتر مُربَّع”.

“تمتصّ النباتات ما بين 80-90% من احتياجاتها من الماء”، يقول كريسيتيان، “ضمن طبقةٍ لا يتعدَّى عمقها ستّين سنتيمتراً تحت سطح الأرض. لكن الماء -أثناء الريّ- يتسرَّبُ لحظياً من هذه الطبقة إلى أعماق الأرض. لذا، إن استطعنا حفظ ما يكفي من الماء في الطبقة السطحية التي تتواجدُ فيها جذور النباتات فإنَّنا سنُخفِّضُ الحاجة للريِّ مرَّات كثيرة، كما سنُخفِّضُ لأضعافٍ من الحاجة إلى الأسمدة والمواد المُغذّية الأخرى التي تحتاجها المحاصيل (والتي يضيعُ معظمها بعد فترة قصيرة من استخدامها) لأنَّها ستبقى راسخةً في التربة”.

وأما الأدهى من ذلك فهو ارتفاع كمية المحصول الزراعي (بعد استخدام الطين النانويّ) بنسبة تصلُ إلى 460%، إذ أصبحت الفواكه والخضراوات التي ينتجها المزارعون أكبر حجماً وأكثر عدداً بمرَّات عديدة. ويعودُ هذا الأمر إلى سببين: أوَّلهما هو الماء والأغذية الإضافية التي تنالُها المحاصيل بفضل اختلاف نوعية التربة التي تنمو فيها، وأما الثاني فهو يعودُ إلى الجذريات الفطرية (Mycorrhiza)، وهي فطريات صغيرةٌ لها دور أساسيٌّ في الحفاظ على صحَّة النبات وتغذيته ونموّه. فقد اكتشف كريستيان -بمحض الصّدفة- أن اختراعه الجديد يساعد هذه الفطريات على الانتشار والازدهار في تربة الصحراء الجافَّة التي من الصَّعب أن تسكنها هذه الفطريات عادةً، ونتيجةً لهذا التأثير غير المُتوقَّع، أدَّى الاختراع إلى اختلافٍ هائلٍ في نوع المحصول وليس في كمّه فقط.

آفاق واعدة

قبل عامين، اتّفق كريستيان مع شركاء لهُ في دبي على إطلاق أول حملة تجارية كبيرة لاختراعه -عالمياً- في الإمارات العربية المتحدة. يرأسُ هذا المشروع حالياً آتل إدلاند، الذي يتوقَّع أن “الطين النانويّ قد يقلبُ موازين القطاع الزراعي والأمن الغذائي في البلدان الصحراوية”، مثل دولة الإمارات والخليج العربي ومعظم دول المنطقة. قبل عام، فاز فرع الشركة الناشئة في دولة الإمارات بمنحة من Expo live بقيمة مئة ألف دولار أمريكي للشّروع بأعمالها ونشاطاتها، والتي كان أحدها -مؤخراً- تفعيل تقنية الطين النانوي في حديقة معرض إكسبو 2020 القادم بدبي.

تأتي التقنية التي طوَّرتها «ديزيرت كنترول» في وقتٍ جوهريّ جداً للأمان البيئي والغذائي حول العالم، إذ قدَّرت الأمم المتحدة حديثاً أن من الضروريِّ “رفع الإنتاجية الزراعية حول العالم بنسبة 70% للتجاوب مع الزيادة السكانية المُتوقَّعة في سنة 2050”، وذلك رغم أن التغير المناخي يؤدّي إلى تدهور الزراعة حالياً وليس إلى ارتفاعها. ولتكون الأمور أسوأ، فإنَّ هذا التدهور يشتدّ كثيراً في البلدان التي تعاني أصلاً من الجفاف والتصحّر، والتي تعتبر البلاد العربية من أوّلها ومن الأشدّ تأثراً بأيّ أزمة بيئية قادمة. ففي ظلّ هذه الظروف، تبقى الحلول التقنية والمبتكرة للمشكلات البيئية -مثل التربة الطينية النانوية- ملاذاً أخيراً وأملاً للمستقبل.