لماذا تشكل شبكة الإنترنت المحلية الروسية تهديداً لشبكة الإنترنت العالمية؟

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

خلال العام الماضي، تحدثت الحكومة الروسية مطولاً حول إنشاء شبكة إنترنت محلية، ووفقاً للمشرّعين وأعضاء مجلس شيوخ “الكرملين”، فإن الفكرة تتمثل في امتلاك شبكة إنترنت يمكن أن تخضع لرقابة صارمة من الدولة، وربما تكون منفصلة عن الشبكة العالمية تماماً. فكيف ستؤثر شبكة الإنترنت المحلية الروسية على شبكة الإنترنت العالمية؟

اختبار فصل شبكة الإنترنت في روسيا

خططت روسيا لتنفيذ ما يسمى باختبار فصل شبكة الإنترنت في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ذلك قبل بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري المقرر فيه البدء بتطبيق القانون الجديد الذي ينص على إنشاء شبكة إنترنت محلية. تخطط روسيا لتكرار هذا الاختبار مرة واحدة على الأقل كل عام، حيث أصبحت الخطوة التي وصفها البعض بأنها خيالية أقرب إلى الواقع، ولا يمكن تجاهل الآثار المترتبة على الأمن السيبراني العالمي وما قد يحدث في روسيا نتيجة لذلك.

دعونا نستعرض بإيجاز الأحداث السابقة. في فبراير/شباط، جرى تقديم مشروع قانون في “البرلمان” الروسي يهدف إلى جعل هذه الفكرة التي طال النقاش حولها، والمتمثلة في إنشاء شبكة إنترنت محلية، حقيقة واقعة. خضع هذا المشروع لمراجعات متتالية، على الرغم من أن جوهر الاقتراح هو نفسه، وهو فرض رقابة تنظيمية أوسع وأعمق على الإنترنت من قبل “الهيئة الروسية المنظمة للاتصالات” (Roskomnadzor)، وقد كتبنا أنا وروبرت مورغوس في مارس/آذار مقالة تتحدث عن أن “رونت” (RuNet)، أو مجتمع الإنترنت الروسي، لم تكن فكرة جديدة، وأن هنالك تحديات فنية وسياسية كثيرة تنتظر روسيا. قبل التوقيع على مشروع القانون، كانت هناك إشاعات حول أن “اختبار فصل شبكة الإنترنت” من المقرر إجراؤه في الأول من أبريل/نيسان. وبعد اتضاح أن ذلك التاريخ لم يكن دقيقاً، وقع فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، مشروع القانون ليصبح قانوناً في مايو/أيار، ومن المقرر أن يدخل حيز التنفيذ في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني. ومنذ ذلك الوقت، كانت الأخبار حول “رونت” هادئة نسبياً حتى اتضح أن الحكومة الروسية كانت تعمل على إقرار القانون.

صرح ألكسندر زهاروف، رئيس “الهيئة الروسية المنظمة للاتصالات”، للصحفيين ما يلي: “يجري تثبيت المعدات على شبكات مشغلات الاتصالات الرئيسية”، وقال إنه ستجري الاختبارات “بعناية” في الجولة الأولى لضمان عدم تأثر حركة الإنترنت والخوادم، ومن ثم ستبدأ اختبارات “وضع التصدي”. ليس واضحاً معنى التصدي هنا، لكن من المحتمل أنه أمر أقرب، على الأقل من الناحية النظرية، إلى العزلة التامة لمجتمع الإنترنت الروسي، وذلك ربما استجابة لأي حالة طوارئ.

كما قيل إن الحكومة الروسية قد بدأت في تطبيق الفحص العميق لحزم الإنترنت (DPI)، وهي تقنية أكثر تطوراً لتصفية محتوى الإنترنت، والتي بدأت اختبارها العام الماضي، وذكر تقرير صادر عن الصحيفة الروسية الرقمية المستقلة “ميدوزا” (Meduza)، أن هذا بلا شك مرتبط بجهود الحكومة الروسية المتكررة وغير الناجحة على الإطلاق لحظر استخدام تطبيق الرسائل المشفرة “تلغرام”. إن تقنيات تصفية محتوى الإنترنت التي تستخدمها الحكومة لم تكن دقيقة بما يكفي، لذا فإن الحلول المؤقتة لاستخدام التطبيق تتيح للمستخدمين الروس الالتفاف على آليات الرقابة.

لكن البدء في الفحص العميق لحزم الإنترنت أشمل من مجرد حظر خدمات الرسائل المشفرة، إذ يعدّ ذلك التدقيق أداة قوية لتصفية محتوى الإنترنت بشكل عام. انظر، على سبيل المثال، إلى كيفية استخدام الصين لها على أنها جزء من جدار الحماية العظيم (Great Firewall)، أي الإجراءات القانونية والتقنية التي تفرضها الصين لتنظيم الوصول إلى شبكة الإنترنت. نظراً لأن التحكم الأفضل بحركة الإنترنت التي تتدفق من وإلى روسيا يعد مكوناً أساسياً في الدفع باتجاه إنشاء شبكة إنترنت روسية محلية، فإن تطبيق الفحص العميق لحزم الإنترنت يلعب دوراً فاعلاً نحو تحقيق هدف إنشاء مجتمع الإنترنت الروسي.

تواصل روسيا أيضاً الدفع نحو تطبيق إجراءات تنظيمية أخرى، مثل محاولة مطالبة “فيسبوك” و”تويتر” بتخزين بيانات المستخدمين الروس داخل الحدود الروسية بحلول نهاية العام. يمكن إجراء تخزين بيانات معينة محلياً، وهو ما يسمى بتوطين البيانات، لطائفة من الأسباب، بدءاً من التحكم في التكاليف (إذ يعتبر وجود بيانات معينة في مكان معين أقل تكلفة)، وصولاً إلى حماية الخصوصية (أي الرغبة في محاولة الإبقاء على البيانات بعيدة عن متناول الدول الأخرى). لكن الحكومة الروسية ركزت بشكل خاص على طلب توطين البيانات للشركات الأجنبية، ومن المحتمل أن تصل في تطبيق إجراءاتها إلى الاتصالات المشفرة. على سبيل المثال، دفعت “الهيئة الروسية المنظمة للاتصالات” شركة “آبل” إلى تخزين أنواع معينة من البيانات محلياً، وقد وضعت الحكومة قواعد لإجبار الشركات على تخزين بيانات المستخدمين ومفاتيح التشفير في أماكن معينة. تعدّ هذه المساعي الأخيرة التي تركز على “فيسبوك” و”تويتر” امتداداً لهذه المعركة التي استمرت لسنوات.

مع كل هذه التغييرات، التي من المحتمل أن تتبعها تغييرات أخرى لم يعلن عنها منذ مايو/أيار، يبدو اختبار فصل شبكة الإنترنت الروسية في المستقبل القريب أكثر احتمالاً، حيث إن هنالك العديد من الدوافع التي تقف وراء هذا الضغط من أجل إنشاء شبكة إنترنت محلية، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر؛ الرغبة المتنامية من جانب العديد من الحكومات المستبدة في ممارسة المزيد من السيطرة على الإنترنت داخل حدودها، والمخاوف في “الكرملين”، خاصة من جانب بوتين، حول التدفق الحر للمعلومات وإمكانية تقويض استقرار النظام، وردود الأفعال في الحكومة الروسية على استراتيجية الدفاع المتقدم (defend forward) الخاصة بالفضاء السيبراني التي وضعتها “وزارة الدفاع” الأميركية، والتي تنطوي على وضع المزيد من الإجراءات من قبل الجيش الأميركي لردع الهجمات الإلكترونية ومنعها من الاقتراب من المصدر، بالإضافة إلى الرغبة في تبرير ممارسات مثل تشديد الرقابة على الإنترنت والهيمنة وفرض السيطرة من خلال إشاعة أن روسيا تحت خطر اختراق نظام معلوماتها وإمكانية تعرضها لهجوم سيبراني من قوى أجنبية. جميع هذه العوامل تؤدي إلى استنتاج مفاده أنه من غير المرجح أن تتخلى روسيا عن هذا المسعى لإنشاء شبكة إنترنت محلية في المستقبل القريب.

تشعر الحكومة الروسية اليوم، حالها حال العديد من الحكومات، بقلق متزايد إزاء الاعتماد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الأجنبية. في هذا السياق، يمكن أن يشمل الدفع نحو استقلالية أكبر في شبكات التوريد الحد من اعتماد المجتمع الروسي على الإنترنت العالمي. إلا أن الأمر يتعلق أيضاً بمفاهيم مختلفة حول “أمن المعلومات”، ما يعني الحماية التقنية لتخزين البيانات، لكن لهذا أهمية ثقافية أكبر بالنسبة إلى تاريخ روسيا الطويل بصفتها دولة تسيطر على وسائل الإعلام مثل التلفاز وشبكة الإنترنت. إن الحديث حول “الإنترنت العالمي والمفتوح” الذي دفعت به العديد من الحكومات الديمقراطية الليبرالية حدث بشكل مختلف تماماً في الحكومة الروسية، ذلك بسبب اختلاف القيم والأهداف الاستراتيجية، بالإضافة إلى الاختلافات الثقافية، ومن غير المرجح أن يتغير هذا أيضاً في المستقبل القريب.

المواجهة التكنولوجية حول العالم

مع تزايد حدة المواجهة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، من المهم عدم إغفال البلدان الأخرى مثل روسيا، ومدى ملاءمتها مع التعاون والتنافس العالميين على التقنيات الرقمية وتنظيمها. على سبيل المثال، لا بد من ذكر أن الحكومة الروسية بصدد صياغة استراتيجية للذكاء الاصطناعي، كما يستمر التعاون الصيني الروسي في تعميق الأبعاد الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. لذلك، فإن اختبار شبكة إنترنت محلية ليس مجرد خطوة أخرى في السعي لتحقيق هدف عملي فحسب، أي شبكة إنترنت محلية خاضعة للرقابة والعزلة، بل إنه يدل أيضاً على استمرار رغبة الحكومة الروسية في السيطرة على التكنولوجيا، خاصة القادمة من الغرب.

بالنظر إلى كل ما سبق، ومع استبعاد مجتمع الإنترنت الروسي، فإن الآثار المترتبة على فصل شبكة الإنترنت غير محصورة ضمن الحدود الروسية فقط، فقد تدفع روسيا إلى تجزئة شبكة الإنترنت أكثر من أي وقت مضى، وربما تحذو دول أخرى حذوها في ذلك. كما أن الآثار المترتبة على حقوق الإنسان واضحة، وكذلك بالنسبة إلى الشركات التي قد ترغب في العمل في السوق الروسية والتي واجهت بالفعل تحديات تنظيمية، مثل التخزين الإلزامي لبعض البيانات داخل حدود روسيا.

لا شك في أن روسيا ستواجه عقبات في سعيها لإنشاء شبكة إنترنت محلية روسية. على أي حال، إن تنفيذ مثل هذا المشروع تقنياً سيكون صعباً على أي بلد، ولكن التقدم في امتلاك قدرات اختبار فصل شبكة الإنترنت يمثل حدثاً مفصلياً في تاريخ شبكة الإنترنت التي أطلقنا عليها يوماً اسم الشبكة العالمية.