قصة تطوير قناع إن 95 المنتشر عالمياً، وهل ستكون هناك بدائل متوافرة له؟

6 دقائق
مصدر الصورة: إنجين أكيورت عبر أنسبلاش
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قبل أربعة أشهر، قال الباحث في أنثروبولوجيا الأدوات الطبية كريستور لينتريس إن الأقنعة التي انهمر الناس على اقتنائها لحماية أجسادها من فيروس كورونا لم تثبت فعاليتها.

بين طيات قناع إن 95 الذي يرتديه الأطباء حالياً، والذي يتفاخر المجتمع الطبي العالمي بأنه النموذج الذهبي للوقاية الصحية، ثمة رواية طويلة عن تاريخ القناع الطبي ومحطات تطوره، ولكن على الرغم من القوة التي يتحلى بها القناع، غير أن جائحة كورونا وضعته أمام امتحان كبير.

هل ما زلنا نثق في قناع إن 95؟

يبدو أن الإجابة: كلا! وإليكم الأسباب:

  • خلال الجائحة، تزايدت عمليات صناعة أقنعة مزيفة، إذ انتشر في الولايات المتحدة والصين ودول أخرى نموذج مزيّف يتم تعليقه على حافة الأذن، بينما يمتلك القناع الأصلي أشرطة يجري ربطها خلف الرأس.
  • أثبت اختبار أجرته إدارة الغذاء والدواء الأميركية فشلَ قناع إن 95. وتعتبر الصين المصدّرة الأولى له إلى الولايات المتحدة ودول أخرى. لقد أظهرت نتائج إدارة الغذاء والدواء ضعفاً في تركيبته وعجزه عن حماية الطواقم الطبية من الفيروسات التاجية، وأنه لا يلبي معايير الحماية في زمن الأوبئة، خصوصاً أن القناع يؤدي أداءً جيداً في حماية فِرق الطوارئ في الحالات الطبيعية، غير أنه فاشل في التعامل مع الأوبئة.
  • أي خطأ في طريقة ارتداء القناع في ظل الجائحة قد تحمل نهاية مأساوية لمرتديه.
  • حملت الجائحة صراعاً دولياً على الأقنعة؛ ففي شهر مارس الفائت، شهدنا قرصنة سفن محملة بالأقنعة ومتجهة إلى الدول الأكثر حاجة للأقنعة.
  • انقطاع سلاسل التوريد، ما أدى إلى نقص حاد في مادة البوليمر التي يتم استخدامها في صناعة القناع، والمسؤولة عن منع دخول الجسيمات البكتيرية بنسبة 95%.
  • يستخدم القناع لمرة واحدة فقط ويتم التخلص منه بعد بضعة ساعات من الاستخدام، لذلك يقوم بعض الأطباء حالياً بتطهير الأقنعة من أجل استخدامها مرات عدة، وهي عمليّة غير آمنة على الإطلاق.

موت عاملين في القطاع الطبي

منذ عام 1960، وُضعت مواصفات رسميّة دقيقة للأقنعة، ولم يشهد تصميمها أي تعديلات أساسية، وذلك على الرغم من وجود انتقادات حول إخفاق المقاييس الكلاسيكية المعتمدة للقناع في حماية النساء العاملات ضمن الطواقم الطبية نتيجة اختلاف حجم وجه الرجل عن حجم وجه المرأة.

لقد كشفت أزمة كورونا عن فشل القناع في تشكيل الدرع الأول لحماية الكوادر الطبية حول العالم. فمن المسائل المحرجة للقطاع الطبي تلك الثوابت الراسخة عن علاقة كورونا بموت مئات الأشخاص العاملين في الرعاية الصحية.

إلى الآن، قتل فيروس كورونا أكثر من 1,000 طبيب وممرض وأصاب 90,000 عامل على الأقل في القطاع الصحي. وفي مراجعة التقارير التي تتناول الأوبئة التي شهدتها البشرية، تكشف مقارنة الأرقام بين وباء وآخر أن إصابة الكوادر الطبية لم تشهد تحسناً ضخماً. فخلال الحقبة التي انتشر فيها فيروس إيبولا مثلاً، مات مئات الأطباء وأصيب الآلاف، كذلك أصيبَ حوالي 30% من أطباء وممرضين أفارقة في الموجة الأولى لانتشار فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وذلك على الرغم من استخدامهم للأدوات الطبية. بينما تشير بيانات الأنفلونزا الإسبانية إلى موت أكثر من 2000 طبيب وممرض بالأنفلونزا.

في العقود الأخيرة، لم تشكل الأوبئة التي عصفت بالبشرية -مثل إيبولا والملاريا ونقص المناعة المكتسبة وفيروس سارس- أيَّ حافز حقيقي لإعادة النظر في الأدوات الطبية التي يتم استخدامها على نطاق واسع، ولكن هذه الجائحة -التي طالت مختلف الكوادر الطبية العالمية- قد فرضت أسئلة مُلحّة تمس فعالية المواد الطبية وجدارتها في مكافحة الأوبئة؛ ذلك أن إصابة أشخاص يعيشون داخل المستشفيات وعلى تماس مباشر مع الفيروس تشير حتماً إلى ضعف الأدوات الطبية، وقلة جودتها وجدارتها في مواجهة الأوبئة.

وعلى النقيض من العصور السابقة، نعيش حالياً في عصر تجتاح فيه التقنية والأدوات التكنولوجية كل شيء. لقد ظلت البشرية 43 عاماً حتى تمكنت من إثبات أن مصدر إيبولا يعود إلى الخفاش؛ ذلك أن أول إصابة سودانية تم توثيقها لإيبولا تعود لعام 1976، في حين أن أول دراسة طبية أثبتت المصدر الحيواني للفيروس تعود لعام 2019. ولكن في الناحية الأخرى، استطاع الباحثون في فترة وجيزة إثارة شكوك تستند إلى دراسات علمية حول المصدر الحيواني لفيروس كورونا.

كل هذه الإنجازات يعود الفضل فيها إلى ميكروسكوبات عالية الجودة وإلى الوسائل الحديثة جداً، مثل تقنية كريسبر وغيرها من التقنيات التي تحيط الكوادر الطبيّة في المختبرات. ولكن ماذا عن العاملين في القطاع الطبي؟

بطبيعة الحال، تنطوي الأزمات الكبرى على فرص حقيقية لإحداث تغيير ضخم في كافة القطاعات الحيوية، ولعل كورونا بدأ يخلق شيئاً فشيئاً فرصة ذهبية من أجل إحداث نقلة نوعية ترفع الوقاية الطبية إلى مستويات مختلفة.

أقنعة من البكتيريا الحيّة

يجري الحديث حالياً عن إمكانية إنتاج تصاميم جديدة للأقنعة؛ ففي الآونة الأخيرة، تم طرح نماذج أُثير حولها ضجة طبية، من بينها نموذج لقناع مصمَّم من البكتيريا، ويمكن إنتاجه داخل مختبرات المستشفيات. ومؤخراً ابتكر كلٌ من غاريت بينيش وإليزابيث بريدجز قناعاً بيولوجياً من البكتيريا، وأطلقوا عليه اسم أكسِلاينوم (Xylinum).

يتكون القناع الجديد من بكتيريا السليلوز، ويمكن زراعتها بشكل بدائي داخل المختبرات أو في المنزل، من خلال تركيب المواد التالية: الماء والشاي والسكر وعينة بكتيرية صغيرة من بكتيريا السليلوز، التي يمكن إيجادها في مواد التخمير المستخدمة في الطبخ. وذكر العالمان أن المادة يمكن العثور عليها بسهولة في شاي كمبوتشا (kombucha).

عندما تتكاثر البكتيريا داخل المواد مجتمعة، تبدأ بإنتاج غشاء على سطح السائل. يحتاج هذا الغشاء إلى مدة أربعة أسابيع حتى تصبح سماكته حوالي 190 سنتيمتراً ولكي يصبح صالحاً للاستخدام. وبعد عدد من التجارب، اكتشف بينيش وبريدجز أن الألياف التي شكلتها البكتيريا متشابكة جداً، ما أدى إلى صعوبة في التنفس.

ومن أجل حل المشكلة، أضاف العالمان جزيئات من الشمع إلى سطح نمو البكتيريا، ما دفع الأخيرة إلى نسج ألياف السليلوز حول كريات الشمع. ولاحقاً قام كلاهما بتسخين القناع على درجة حرارة معتدلة لتذويب الشمع، وهو ما خلق بيئة مجهرية سالبة تشبه غرف العمليات، وقد سمح ذلك بالتنفس بشكل مريح وقتل البكتيريا في الوقت عينه.

وفي الاختبار النهائي، ظهر تماسك الطبقة، ومُنعت جزيئات الفيروس التاجي من التسلل إلى الجهة الداخلية للقناع. وبحسب الطبيبان، فإن القناع الشفاف سيسمح للأشخاص بقراءة الشفاه، كذلك فإنه يتناسب مع تطلعات البشرية في الوصول إلى أدوات مصنوعة من موارد حيويّة صديقة للبيئة، وذات كُلفة منخفضة.

وبحسب العالمان، فإن القناع الجديد سيكون المرشحَ المستقبلي للحلول مكان إن 95، الذي يعتبر “المعيار الذهبي”؛ إذ يمكن إعادة تنظيف القناع الحيوي بالطريقة نفسها التي تمت صناعته بها.

قناع من النحاس

مؤخراً، طوّر علماء قناعاً تحتوي قماشته على النحاس، وذلك بعدما أثبتت المادة المعدنية أنها مضادة للميكروبات والفيروسات التاجية. تحتوي مادة النحاس على أيونات موجبة قادرة على تدمير الفيروسات.

وأظهرت الدراسات الأولية أن القناع الممزوج بالنحاس قادر على تعطيل فعالية الفيروس التاجي في وقت قصير جداً. وفي الوقت الراهن، يستخدم النحاس في المعدات الطبيّة لمنع التصاق البكتيريا فيها. هذا القناع الجديد بات متوافراً في الأسواق وتبلغ قيمته حوالي 25$، ويمكن غسله مرات عدة دون أن يؤثر ذلك في جودته.

لمحة عن تاريخ إن 95

يمثل القناع إرثاً تاريخياً لدى عدد من الشعوب؛ ويتم تلقيبه بالقناع الذهبي؛ إذ تُظهر الصور التاريخية كيف كان الرحالة يغطون وجوههم لحمايتها من الغبار أو حرارة الشمس، ولكن بعد الطاعون العظيم الذي أصاب مدينة مارسيليا الفرنسية عام 1720، جرى استخدام القناع في شكل طبي بدائي تغمره الخرافات.

تكشف الصور -التي عبّر من خلالها الرسامون عن الحقبة المؤلمة للطاعون العظيم- أن حفاري القبور ارتدوا القناع خلال دفن ضحايا الطاعون، ليس خوفاً من انتقال العدوى من الموتى، بل اعتقاداً منهم أن الوباء مصدره يكمن في عمق الأرض. وعلى الرغم من أن الحقبة التي ظهر فيها الطاعون شهدت ازدهار أفكار علمية وقوانين إسحاق نيوتن، إلا أن الجو العام للقرن الثامن عشر كان مشحوناً بالخرافات، لذلك سادت نظرية مياسما التي تتحدث عن أن الطاعون عبارة عن هواء شرير يخرج من باطن الأرض التي تحتوي على مواد عضوية متعفنة.

لقد كان لنظرية مياسما دورٌ في ظهور أول قناع طبي في التاريخ، الذي كان غريباً جداً؛ إذ يتخذ شكل منقار الطائر ويغلف الوجه بأكمله. ومع الأسف، لم يكن للقناع أي دور يذكر؛ فبحسب الطبيب الفرنسي أنطوان كلوت، ساهم القناع في انتشار الوباء. ولكن رغم مساوئه الجمّة إلا أن النظرية الخرافية لعبت بمكان ما دوراً هاماً في تطوير وسائل تنظيف المدن من النفايات.

في عام 1897، دخل القناع بحلة مختلفة إلى غرف العمليات، لقد كان عبارة عن قماشة سميكة تغطي الوجه، وتبين أن سماكته تشكل عائقاً للتنفس، ولكنها كانت بمثابة الحجر الأساس لقناع إن 95.

بعد انتشار طاعون شمال الصين عام 1910، تحسنت تركيبة القناع، فظهر نموذج جديد منه على يد الطبيب الصيني ووه ليان-تيه، ويتألف من الشاش والقطن. إن القناع الجديد أتى تتويجاً لاكتشاف الحقيقة العلمية التي تفيد بأن الأوبئة تنتقل عبر الهواء، وهي عبارة عن جسيمات صغيرة تظهر تحت المجهر.

عام 1918 شهدت الولايات المتحدة تفشي الأنفلونزا الإسبانية. ونتيجة النقص الحاد في الأقنعة الطبية، جندت الحكومة الفدرالية عمال الصليب الأحمر الأميركي لصنع أكثر من 260 ألف قناع في ثلاثة أيام فقط، وتتناسب مواصفاتها مع الأوبئة. ولكن القناع الذي تم تصنيعه لم يتم استخدامه لاحقاً نتيجة فشله، ومن جهة أخرى، ترافقت الأنفلونزا  مع الحرب العالمية الأولى، ما شكل حافزاً لابتكار أقنعة تتناسب مع التحديات الصحية.

وفي عام 1920، ازدهرت الاختبارات على الأقنعة نتيجة اندلاع كل من الحرب العالمية الأولى والثانية، اللتين تطلّبتا من الدول حمايةَ جنودها من المواد السامة التي يلقيها الأعداء، لذلك تعد الحربان محطتين أساسيتين في صنع النموذج النهائي لقناع إن 95، الذي كان استخدامه مقتصراً ضمن الفضاءات العسكرية. وفي أواخر الخمسينيات، دخل القناع إلى المستشفيات، ويتم حالياً اعتماده كنموذج عالمي موحد.