كيف تعيش في العزلة؟

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قضيت أربعة أشهر أتظاهر بأني أعيش على المريخ. وإليكم ما تعلمته عن الحفاظ على الاتزان العقلي وقضاء الوقت في العزلة.

في عام 2013، حزمت حقيبتي وانتقلت للسكن في قبة جيوديسية مع فريق يضم خمسة أشخاص آخرين، متظاهرين بأننا رواد فضاء في رحلة إلى كوكب المريخ، لأعيش فترة غريبة من حياتي. أسست “وكالة ناسا” هذه التجربة بعنوان “هاي–سيز” (HI-SEAS) (تجربة هاواي لاستكشاف الفضاء بناء على التمثيل والمحاكاة) على قمة البركان ماونا لوا. وكان علينا كفريق تقديم بيانات عن صحتنا الجسدية والنفسية والاجتماعية للعلماء، على أمل أن تتمكن هذه التجربة من الإعداد لرحلة مستقبلية إلى الكوكب الأحمر توفر شروطاً أفضل للرواد المستقبليين المفترضين.

في هذه التجربة، كان علينا الانقطاع عن عائلاتنا وأصدقائنا، دون وسيلة تواصل سوى اتصال إنترنت بطيء جداً يتأخر مدة 20 دقيقة. لم يكن لدينا أغذية طازجة من خضار أو فاكهة، وكل ما توفر لنا هو الطعام المعبأ المخزن. ولم يكن بإمكاننا مغادرة القبة إلا في بدلات فضائية، وهي بدلات واقية زائدة لدى الحكومة أجريت عليها تعديلات وأصبحت أكبر حجماً. لم أكن أعلم أن تجربة “هاي–سيز” ستعدّني للحياة على الأرض في مارس/آذار، 2020.

نعلم جميعنا أن احتجاز الإنسان لعدة أشهر قادر أن يودي به إلى الجنون. واليوم، يعزل الناس أنفسهم للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، بمن فيهم المصابون بأمراض مزمنة، وأصحاب الهمم ذوي الاحتياجات الخاصة، والسجناء، والأمهات الجدد وطلبة الجامعات والموظفون المستقلون الذين يعملون من منازلهم. لكن هذا النوع من العزل يترافق دوماً مع صعوبات نفسية كبيرة.

ينطبق الشيء ذاته على رواد الفضاء الذين يذهبون في رحلات طويلة. لذا، قبل إرسالهم في رحلة إلى المريخ تدوم عامين ونصف العام، تريد “وكالة ناسا” أن تفهم الصعوبات التي ستواجههم وطريقة مساعدتهم في التعامل معها. وإذا لم تدرس هذه الصعوبات بدقة وتأخذها بعين الاعتبار عند اختيار الطاقم وتصميم الرحلة، فستذهب كل جهودها لاستكشاف كوكب المريخ سدى. وكما قالت رئيسة تجربة “هاي-سيز”، الأستاذة في جامعة هاواي، كيم بينستيد: “لنعتبر أن الرحلة إلى كوكب المريخ هي نظام مؤلف من عدة أنظمة، والبشر يشكلون جزءاً منه، إذا انهار هذا الجزء فسيكون أثر انهياره كارثياً كما لو أن الصاروخ بأكمله انفجر”.

الوقت عامل زلق في العزلة. وكلما ازدادت قدرتك على التعامل معه، كان ذلك أفضل

تتضمن التحديات أموراً منبهة صغيرة تتضخم مع مرور الوقت لتصبح مستفزة، كمحاولة زميلك تنظيف حلقه بالسعال كل خمس دقائق مثلاً، ومشاعر الإحباط المستمرة التي تترافق مع عدم القدرة على التواصل بين أفراد الطاقم والأرض، فيفقد أفراد الطاقم ثقتهم بقدرة فريق دعم المهمة على تقديم المساعدة أو المعلومات الموثوقة. كما أن الملل عامل مهم، فهو خمول غريب يدفع الإنسان للعمل أو يمنحه رؤى خلاقة، غير أنه يقوده أيضاً إلى نفق يأس يشتد ظلامه بلا نهاية.

تكمن الصعوبة الأساسية بالعزلة في أن الإنسان بطبيعته كائن قادر على التكيف يزدهر في البيئات المتغيرة. يقول العالم في برنامج الأبحاث الإنسانية في “وكالة ناسا”، توم ويليامز، المختص في علم العناصر والعوامل البشرية والأداء السلوكي: “تزيل العزلة سياق التكيف هذا نوعاً ما، لأن الإنسان عندما يعزل، يفقد قدرته على التفاعل مع بيئته بطرق مختلفة كثيرة. لذا، فالعزلة تخلق حاجزاً يمنع الإنسان من أن يكون قادراً على التحمل والتكيف”.

الغموض هو أحد أوجه الاختلاف الكبيرة بين محاكاة الرحلة إلى المريخ والعزلة التي نعيشها اليوم بهدف إبطاء انتشار “فيروس كوفيد-19”. فالوضع الذي نواجهه جميعنا اليوم يتغير بسرعة، ونحن مطالبون بتكييف سلوكنا والحد من حركتنا، ولا أحد يعرف إلى متى سيستمر ذلك. في حين أننا عندما بدأنا تجربة “هاي-سيز”، كنا نعرف مدتها وتمكنا من وضع خطط للاحتفال بالإنجازات وترقب اليوم الذي سنعود فيه إلى “الأرض” من دون أي شك، وهذه رفاهية ليست متاحة لنا اليوم في عزلتنا الانفرادية العامة. ومع ذلك، أنا أؤمن بأن بعض الطرق التي اتبعتها مع زملائي أثناء عزلتنا في تلك القبة يمكن تطبيقها في الوضع الحالي، وربما كان بعض هذه الاقتراحات قادراً على تخفيف العبء.

اجعل الطعام مميزاً. ربما قمت بتكديس بعض السلع القابلة للتخزين، هذا جيد. فجميع الأطعمة التي كانت متوفرة في تجربة “هاي-سيز” كانت عبارة عن أطعمة معبأة أو مجمدة أو مجففة، وهذا ما سمح في الحقيقة بتحضير عدة وجبات لذيذة (ألّفت زميلتي شيان بروكتور كتاباً وسجلت مقاطع فيديو حول إعداد الوجبات والطبخ، وقد تجد لديها بعض الأفكار المفيدة). جربنا بعض الوصفات الجديدة واحتفلنا بالإنجازات وأعياد الميلاد مجتمعين حول مائدة العشاء متعددة الأطباق. وساعدنا ذلك على كسر رتابة الوقت. يمكنك إعداد طبق جديد مليء بالنكهات لا تتناوله عادة، بالإضافة إلى الأطعمة التي تشعرك بالراحة. اعثر على وصفات جديدة وعامل الوجبات على أنها وقت مخصص للتواصل مع الآخرين واستمتع بتجربة جديدة، وابحث عما يمنحك الهدوء.

اكتب مذكراتك. توصي “وكالة ناسا” رواد الفضاء بكتابة مذكراتهم اليومية، فهي تفيد الوكالة في معرفة أمور عما يثير مشاعر الإحباط لدى رواد الفضاء لمساعدة مستكشفي الفضاء المستقبليين في التغلب عليها. وكما نعلم جميعاً، فإن تفريغ الأفكار التي تسبب ضغطاً نفسياً على الورق مريح جداً. لا أود المبالغة بالأمر، ولكننا نمر بفترة تاريخية. وغالباً لن تندم على الاحتفاظ بنوع من السجلات عن حياتك اليومية حتى وإن كانت مجرد توثيق لما تناولته على الفطور، أو قائمة بالأمور التي تود فعلها، أو الإزعاج الذي يتسبب لك به أحد زملائك في العزل، سواء كان هذا التوثيق بالكلمات أو الصور أو تسجيلات الفيديو.

اتبع طقوساً محددة. كان فريقنا يجتمع لمشاهدة الأفلام مرتين في الأسبوع. كان ذلك يبدو بعض الأحيان ثقيلاً، وكانت اختيارات زملائي للأفلام لا تروق لي، لكن كان من الجيد أن يكون لدينا نشاط ثابت يجعل الوقت مميزاً نتطلع إليه. فالوقت عامل زلق في العزلة، وكلما ازدادت قدرتك على التعامل معه، كان ذلك أفضل. كما اكتشفت أنه من المفيد أن أشغل نفسي، ربما عن طريق صنع أشياء تساعدني على التركيز على أمر ما في الوقت الحاضر.

اخرج. أتمنى لو أني فعلت ذلك أكثر، ولكن مشاريعي الكثيرة كانت نشاطات داخلية، منها القراءة وتنظيم بيانات نوم الطاقم. كما كان الاستعداد للخروج يتطلب عمل عدة أشخاص معاً لمدة تزيد على عشر دقائق كل مرة. فالبدلات كانت ضخمة ومعقدة، وكان إرسال سماعات الاتصال اللاسلكي يتقطع باستمرار. ومع ذلك، كنت أشعر بتحسن كبير بعد كل رحلة أجريها في حقول حمم ماونا لوا الحمراء، حيث كنت أسمع صوت طبقة البازلت وهي تتصدع تحت أقدامي وأنظر إلى فتحات الكهوف السوداء، وأحدق في السماء وأتخيل أنها حمراء مغبرة لا زرقاء صافية. كما أن الإمساك بالأحجار كان تذكيراً رائعاً بالزمن العميق، فقد سبقتنا عصور كثيرة، وستكون هناك عصور كثيرة بعدنا، وهذه الفكرة مريحة بالنسبة لي. إذا كان ممكناً، تمشّ قليلاً، تنفس الهواء النقي، واستمتع بأشعة الشمس مع مراعاة الحفاظ على مسافة آمنة وصحية بينك وبين الآخرين. 

خالط الآخرين. بما أن كوكب المريخ بعيد جداً، ويتطلب إرسال البيانات منه إلى الأرض نحو 24 دقيقة، كانت اتصالاتنا محدودة بمحادثات الرسائل الإلكترونية غير المتزامنة. وبما أنه لم يتوفر الاتصال عبر “فيس تايم”، ولا الرسائل النصية، ولم يكن هناك “تويتر” أو “فيسبوك” أو “إنستغرام”، وهو أمر مريح بصراحة، فقد تعلمت طرقاً جديدة للاستمرار بمراسلاتي، عن طريق إرسال رسائل إلكترونية أو قصائد شعرية، أو إرسال التحية عبر رسائل الفيديو القصيرة بصورة يومية. وكانت هذه المراسلات جزءاً أساسياً من بناء العلاقات والحفاظ عليها في الوطن. وسيكون مهماً بالقدر نفسه أن تبقى على اتصال مع أصدقائك وعائلتك المعزولين بعيداً عنك، فعلى الأقل يتمتع كثير منا باتصال الإنترنت السريع الذي يمنح ميزة التفاعل في الوقت الحقيقي. وبالفعل، بدأت تقوم فعاليات افتراضية عبر الإنترنت، كنوادي الكتاب والعروض واللقاءات لتناول القهوة في جميع أنحاء البلاد. كما انتقلت مواد تعليمية كثيرة إلى التعليم الافتراضي، بما فيها الحلقات الدراسية في مادة الشعر التي أدرّسها في “جامعة كولومبيا”. ولدي الآن خطة كبيرة لقراءة كتاب “الحرب والسلم” (War and Peace)، وقضاء وقت أكبر مع مجموعة الشاعر راينر ماريا ريلكه الشعرية “مراثي دوينو” (Duino Elegies)، وربما التسجيل في بعض دورات الرسم التعليمية، لأرى كيف تبدو المشاركة في الفعاليات الافتراضية أو الدروس على الإنترنت، أو استضافتها بنفسي.

نوّع. أحضرت عالمة الطاقم، ياخيرا سييرا ساستر عدة تجارب في علم الأحياء معها كي يكون لديها أمر جديد تصب تركيزها عليه كل أسبوعين. أما بالنسبة لرياضتنا اليومية، مارس كثير منا تمارين (P90X) التي تضم مجموعة منوعة من التمرينات الرياضية. كما كان لدينا أريكة وكرسي قابلين للنفخ كي نتمكن من إعادة ترتيب مساحة الإقامة المشتركة بسهولة، فتغيير البيئة المحيطة بك هي إحدى طرق كسر الملل. لذا، رتب المشاريع التي تأمل إنهاءها وأدخل التنويع والتغيير كبديل عن الغموض والقلق، ولا تخف من تغيير ترتيب مفروشاتك أو طلاء حائط أو إعادة تنسيق الرفوف أو صنع لوحة فنية جديدة وتعليقها.

متّع حواسك. أحد الأمور التي أدهشتني كان مدى أهمية الروائح في مهمتنا. ففي التجربة الأساسية في مشروعنا، والتي هي دراسة الأطعمة، أجرينا اختبارات لتحديد مدى قدرتنا على التعرف على الروائح. فهيجت رائحة الأناناس الطازج في بداية التجربة عواطفي بصورة مفاجئة. وفيما بعد، كانت لدينا كتيبات مصادق عليها علمياً تتيح لنا حك أوراقها وشم الروائح التي تصدر عنها، فجعلتني رائحة العشب الأخضر، وبعدها رائحة المطاط، شديدة التوق للعودة إلى الحياة على الأرض. أحط نفسك بأشياء رقيقة، أحضر بعض النباتات والزهور ما دام بإمكانك ذلك، تنشق روائح الزيوت العطرية والتوابل، شاهد أفلاماً غريبة والعب بألعابك الإلكترونية المفضلة واستمع إلى الموسيقى، استرخ بحمام دافئ وتمدد ونشط نفسك بالاستحمام بالماء البارد، ذكر نفسك بجسدك.

توقع أن يكون الأمر صعباً. على الرغم من أني أعرف التحديات التي يحملها الانعزال واستعدادي النفسي للتعامل معها، فإن تفاديها لا يزال صعباً. عندما كنت على المريخ، تآلفت مع طابع الملل الخاص بي. كنت أظن قبل المهمة أني لا أشعر بالملل على الإطلاق، ولكن الحقيقة هي أني أشعر بالملل طوال الوقت تقريباً، وأبحث دائماً عن شيء جديد ومثير للاهتمام. ومع مرور الوقت من دون أي تغيير، وجدت نفسي أنجرف إلى حالة من الغفلة تيقظت منها فجأة عندما ظننت مرة، ولبضع ثوان، أن أحد زملائي هو شخص غريب دخل علينا.  

عندما تشتد صعوبة هذا العزل، وتشعر بالإحباط والانزعاج والملل، لا تقسَ على الوضع أو على نفسك، بل فكر عوضاً عن ذلك بالتعامل مع الأمر من باب حب الاطلاع وكأنك عالم أو فنان. شاركت في تجربة “هاي-سيز” كصحفية وعالمة سابقة، ولكن تجربتي داخل القبة غيرتني. وفي الأعوام التي تلتها، أصبحت كاتبة من نوع مختلف، أقضي وقتاً أكبر مع الشعر والأفكار الترابطية التي بدأت أنظر إليها من عدة زوايا لا بصورة مباشرة. امنح الملل ومشاعرك الصعبة الأخرى بعض الاهتمام، ودعها تغمرك. يمكن أن يكون هناك شيء جيد ينتظرك في الطرف الآخر.

تذكر هدفك. هذا الأمر سهل بالنسبة لرواد الفضاء، وخصوصاً في رحلة إلى المريخ. بيد أن طاقمنا كان يعمل بالنيابة عن الطاقم الحقيقي، وأعترف أني عانيت من عدة تعقيدات معنوية إلى أن أقنعت نفسي أننا نقوم بأمور مهمة من خلال ملء الاستبيانات اليومية والتعامل مع التغييرات المحيرة، كتعديل بعض شروط التجربة وانقطاع الكهرباء والماء واختلاط المعلومات الواردة من فريق دعم المهمة في بعض الأحيان. وعندما اقتنعت بذلك، كان الأثر كبيراً، ففكرة القيام بأمر قد يكون مفيداً لمستقبل استكشاف الإنسان، والإنسانية ربما، جعلتني أشعر بالأمان وحررتني من شعور الثقل والعجز. من المذهل كم أثر بي التركيز على أني أشارك في عمل تاريخي، وأسهم في أمر قد يكون بالغ الأهمية بالنسبة للآخرين.

والآن، ها نحن ذا، كثير منا يلزمون منازلهم يصارعون الملل ويعيشون وضعاً سريع التغير ويفكرون بسبل مستدامة، ويحاولون الحفاظ على هدوئهم في خضم كل هذا. هذه مهمة لم يرغب أحد منا في المشاركة فيها، ومع ذلك فقد يكون مجدياً أن نعتبرها مهمة ذات هدف واضح، وأن نتمسك بهذا الهدف عندما تشتد علينا الأمور.

في النهاية، قد يتملكك شعور، مثلي، بأننا نسافر إلى كوكب مجهول، نسخة ما عن كوكب الأرض ينتظر اكتشافه. أؤمن بأن هدفي في هذه الرحلة هو أن أفعل ما يمكنني للمساعدة في منع الفيروس القاتل من حصد أرواح الناس في مجتمعي وفي البلاد كلها. قد تكون هذه الرحلة مزعجة وشاقة، وعندما تشتد صعوبتها سأحاول أن أذكر نفسي بالهدف المشترك والتضامن مع الآخرين كلما استطعت. أعتقد أن عزلتنا الإجبارية كشفت على نحو مذهل مدى اتصالنا داخلياً فيما بيننا ودرجة اعتماد بعضنا على بعض. ربما سيساعد ذلك على توضيح الطرق التي ستمكننا من جعل كل الأمور أفضل في المستقبل، على الصعيدين الشخصي والاجتماعي الاقتصادي. فنحن جميعاً جزء من أمر تاريخي أكبر منا، وقد يكفينا تذكر ذلك في ظل الغموض الكبير الذي يلفنا في هذه الأزمة.